يوم.. ويومان

الصفحة الاخيرة 2020/02/04
...

حسن العاني 
انها قصة حب عذبة، وفي الريف يرتبط الحب بأعراف العشائر وابن العم، وحين باءت وساطات الخيرين بالفشل، ولم يكتب لزواجهما النجاح، عمدا مضطرين الى الهرب، واستقر بهما المطاف بعيداً عن قريتهما في خرابة مهجورة، ولم يكن مع الفتى سرحان غير وارد المحصول الذي قبضه عن زرعه لذلك الموسم، ولم يكن مع الفتاة وضحة سوى (صرة) ملابسها 
وخزامتها الذهبية!
عقدا قرانهما، وباعت وضحة (الخزامة)، واقتنيا حاجات المنزل الضرورية، وعاشا على بساطة حياتهما، اياماً من السعادة لا احلى ولا اطعم منها، وكان سرحان يحلم بتوفير حياة افضل لزوجه، ويتمنى تعويضها عن صبرها الجميل، لذلك انهك نفسه بالعمل، وكانت وضحة تجمع الدينار على  الدينار، وتستكمل اثاث منزلها، مثلما كانت تدرك ان زوجها الطيب كان يفعل ذلك، ولا يتوانى عن العمل في مكانين اذا توفرت له الفرص، ليس من منطلق مسؤوليته الاسرية فقط، وانما لإسعادها كذلك، ومن هنا قادتها فطرتها القروية الى الوقوف معه ومساعدته بالمثل، فراحت تقتني الدجاجة والدجاجتين وتقوم بتربيتها وتكثيرها، حتى امتلأ القن الكبير الذي بنته بنفسها بأكثر من خمسين ديكا ودجاجة، وكانت تجمع البيض وتعرضه للبيع على البيوت المجاورة! مر عامان على زواجهما حين التحق سرحان بالجبهة ايام الحرب العراقية الايرانية، وكان في اسبوع اجازته يطلب العمل هنا وهناك فلا يحصل عليه الا مصادفة، وتحملت وضحة وحدها اعباء المنزل ومصروفه معتمدة على ما يدره عليها البيض، ولكن المبلغ كان شحيحاً، وعبر شد الاحزمة على البطون امضيا شهوراً عصيبة من ضنك العيش، فراتب الخدمة الالزامية الذي يتقاضاه زوجها لا يكاد يسد أجور الطريق، ومع ذلك كانت وضحة تتدبر امرها بصعوبة بالغة، حتى انها كانت تأكل يوماً وتصوم يوماً، ولكنها راضية صابرة وتنتظر الفرج، لولا ان الحرب خطفت زوجها فيمن خطفت من شهداء، وصمدت القروية وحيدة تعيش على ما تبيع من البيض، وانتهت سنوات الحرب، واحتل العراق الكويت، وخرج من الكويت، ودخلت البلاد في حرب جديدة مع قوات التحالف وسقط النظام، وتم احتلال العراق، ووضحة تعيش على ما تبيع من البيض، فتأكل يوماً وتصوم يوماً آخر، ثم قام مجلس الحكم، وجرت انتخابات تلتها انتخابات، وشهدت البلاد ولادة مجالس المحافظات والبرلمان، وصدرت مئات التشريعات، وتشكلت حكومات علاوي والجعفري والمالكي والعبادي وعبد المهدي، ورئاسات الياور والطالباني، ومعصوم وصالح، وزادت كميات النفط المصدر وارتفعت اسعاره، وامتلأت خزينة الدولة بمليارات الدولارات، وهي تأكل يوماً وتصوم يوماً آخر، وقدمت الحكومة معونة انسانية لليابان وطفحت عيون المفسدين بالأموال والقصور والمركبات، ووضحة العراقية مازالت تعيش على ما تبيع من البيض.. 
ومازالت تأكل يوماً ولكنها تصوم .. يومين!!