لعن الله الخمرة وفعلتها إذا ما عششت في الرأس، فإنَّها تذهب رزانة العقل وتفك عقدة اللسان، وتطلق أجنحة الخيال، فإذا شاربها غير الذي عهدناه، وكأنه في أمسيته المنتشية غريبٌ على أصبوحته الكئيبة وذلك هو حال صاحبنا يوسف أفندي، الرجل الذي قارب الستين من عمره، ولم ينهره اشتعال الرأس شيباً عن معاقرة الكأس، وما زال إذا دبَّ دبيبُها يزعم أنَّه رب الخورنق والسدير، ويقول لنديمه أسقنيها وقل لي هي الخمر!!
كذلك هو الأفندي في نهاره وصحوه، إنسانٌ لا أودع منه ولا أشد تواضعاً ولا أنبل خلقاً، عفيف اللسان رحيمٌ بأهله، لا يردُ سائلاً ولا يخيب عنده محتاج، حتى إذا جنّ الليل وأمسى على مائدتها، رأينا منه العجب، يضحك مرة ويبكي مرة أخرى، ويهذي كمن تلبس الجنُّ روحه، ثم يتحامل على نفسه ويقف مترنحاً، ويطلق عبارة أثيرة لديه (لو كنت زعيم العراق لأصلحت الأوضاع في يومٍ واحد)، وبعد أنْ يصفق لنفسه يعودُ الى مقعده حزيناً ويملأ كأسه ويبكي بمرارة!!
مرَّة واحدة في العقد التسعيني من القرن الماضي – وكنا مدعوين الى حفلٍ خاصٍ في بيت أحد الأصدقاء – وبعد أنْ عاقر صاحبنا الخمرة وأطلق عبارته الأثيرة، في تلك المرة الوحيدة سأله صاحب الدعوة (ماذا يفعل الأفندي لو أصبح زعيماً؟!)
فرد عليه في الحال (سألغي حملة صدام حسين الإيمانيَّة، لأنها أكبر كذبة) وضحكنا من أعماقنا، ولم نتحسب أنَّ تلك العبارة سوف تقوده الى السجن 15 سنة، أمضى منها أربعاً عجافاً قبل أنْ يشمله العفو العام!
الأفندي لم يتعظ من سجنه، ولم ينته من منادمة الخمرة، وظلَّ على حاله كذلك حين غادر السجن، وزاد شراهة بعد سقوط النظام، ولم يغير عادته ولا عبارته الأثيرة، حتى شاءت المصادفة أنْ تجمعنا من جديد، قبل شهر تقريباً، في حفل زواج أقامه أحد أصدقائنا، وكالعادة أقبل الأفندي على كؤوسه لا يكاد يفرغ من إحداها حتى يملأ الأخرى، وهو يضحك ويبكي، ثم يتحامل على قدميه ويطلق عبارته الأثيرة، وللمرة الثانية تشاء المصادفة أنْ يسأله أحد الحضور مازحاً عما سيفعل لو أصبح زعيماً ليومٍ واحد؟ فردَّ عليه كمن كان مستعداً للإجابة (سأقيم أفضل علاقة مع السعودية لكي لا تغلق طريق الحج على الناس، وأفضل علاقة مع إيران لكي لا تحرمنا من الساهون والكرزات، وأفضل علاقة مع سوريا لكي لا تمنع عنا قمر الدين في شهر رمضان، وأفضل علاقة مع تركيا لكي لا تحجب المسلسلات التركيَّة وأفضل علاقة مع أوروبا حتى نحصل البضائع الجيدة، وأفضل علاقة مع أميركا حتى نتجنب لغاوي الحروب، وأفضل علاقة مع كردستان حتى..) وضاع صوته أمام ضحكاتنا، فقد ضحكنا كما لم نضحك في حياتنا، وحين هدأت أجسادنا من الاهتزاز، وتأملنا كلام الرجل وأبعاده، استغربنا كيف فات هذا الأمر على زعمائنا الصالحين، ولم يفت على الأفندي السكران، واكتشفنا أنَّ البلاد تحتاج حقاً الى زعماء مخمورين من دون خمرة!!