جواد علي كسّار
هل الغرب الذي نذمّه ونشتمه، ونحرق أعلامه عند سورات الغضب، هو نفسه الذي نلجأ إليه عندما تحطّ النائبات في بلادنا؟ وهل هو نفسه الذي نتحدّث منذ مئة سنة وأكثر، عن انحطاطه وابتذاله وانحداره الأخلاقي، ومع ذلك يتحوّل إلى مقصد نبذل الغالي والنفيس، ونعرّض أنفسنا وأهلينا للقرصنة والغرق والمخاطر، من أجل الحصول على الأمن في أوطانه، لنا ولأسرنا؟ وهل هذا الغرب هو نفسه الذي ينظّر مفكرونا ضدّه، ثمّ يتحوّل إلى مأوى آمن لعدد غير قليل من هؤلاء المنظرين والمفكرين والعلماء، عندما تمسّهم نار الأنظمة البوليسية في بلادهم، فلا يجدوا مناصاً من التقاعد المريح في بلاده، بعناوين اللجوء الإنساني والسياسي واستراحة المحارب؟
التغييريون من اتباع المنهج الجذري الانقلابي الشامل في العمل الإسلامي، أراحوا أنفسهم بتوحيد حيثيات الحياة الغربية كلها في بؤرة واحدة، هي «الغرب» وأعلنوا من دون مواربة أو تردّد القطيعة الكاملة، موقفاً مناهضاً ضدّ الغرب، على ما تكشف ذلك مدوّنات كبرى حركات الإسلام الحركي، وتتجلى في تنظيريّات أبرز مفكريه خلال قرن من الزمان تقريباً.
أما الإصلاحية الإسلامية فهي تنأى عن لغة التعميم والإطلاق، وترفض اختزال واقع الحياة الغربية في نقطة واحدة، فتبادر إلى منطق التفكيك ولغة التمييز، وإعادة بناء الرؤية عبر التركيب. في هذا المنهج يتوزّع الغرب بين أربعة مستويات على الأقل، يختلف بينها الموقف.
هناك في البدء الغرب السياسي الذي تمثله الأنظمة السياسية الغربية؛ كلّ نظام بحسب تأريخه الاستعماري وواقعه الحاضر على الخريطة العالمية، والموقف منه باختصار، هو المقاومة بجميع ألوانها، تبعاً للأوضاع والإمكانات بين بلد وآخر، بلوغاً إلى الندّية والتوازن.
بعد ذلك أمامنا الغرب الثقافي، ومعيار التعامل معه، هو «الجدوى» انطلاقاً من أن الحكمة هي ضالتنا، نأخذها أنّى وجدناها. ثمّ هناك الغرب التكنولوجي، ومعيار التعامل معه قائم على أساس «الحاجة» و«الضرورة» وما نحتاج إليه من تكنولوجيا الغرب نأخذه من دون حرج، مادام ضرورياً لحياتنا وديمومتها. أخيراً هناك الغرب الإنساني، وهو ما نلمسه في حياة المجتمعات الغربية في أوطانها؛ في أميركا وفرنسا وبريطانيا والدنمارك والنمسا وغيرها. ومعيار التعامل مع الغرب الإنساني هو «التعارف» انطلاقاً من قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
هكذا تُخرجنا الإصلاحية من منطق الإطلاق والتعميم، لتضعنا أمام منطق التحليل والتفكيك والتمييز، من خلال عملية الاجتهاد المعرفي المتواصل، لتكون الحصيلة في قضية من أخطر قضايا المسلمين هي العلاقة مع الغرب؛ أن هذه العلاقة تجعلنا أمام أربعة مستويات من الغرب؛ هي الغرب السياسي، والثقافي، والتكنولوجي، والإنساني، لنكون تالياً إزاء أربعة مواقف، هي المقاومة، والجدوى، والحاجة، والتعارف.
تمارس الإصلاحية عملية التفكيك وإعادة التركيب هذه، من دون مشكلات معرفية وتناقضات مع المرتكزات العقدية، كما هو شأن الانقلابية التغييرية، التي لا تجد أمامها إلا موقف القطيعة الشاملة، والدخول في معارك لا نهاية لها ليس مع الغرب وحده، بل مع العالم برمته، لأنها تعتقد أن بيدها وحدها، مشعل هداية العالم وإنقاذ البشرية!