العراق يختار مبادرة {الحزام والطريق}

العراق 2020/02/10
...

ترجمة / انيس الصفار 
يتجه مسار الهيمنة الصينية على الاقتصاد خلال القرن الحادي والعشرين بشكل مباشر صوب الشرق الأوسط، حيث تأمل بكين في صياغة شراكات بمليارات الدولارات مع العراق وباكستان، وحتى مع سوريا التي مزقتها الحرب، من اجل توفير الوقود لمسعاها الجاد للحلول محل الولايات المتحدة كأقوى قوة في العالم. يقول المحللون إن إعلان العراق المفاجئ في الخريف الماضي عزمه على الانضمام الى مبادرة الحزام والطريق الصينية العملاقة شاهد واحد فقط على التنامي السريع لبصمة الصين الاقتصادية في الشرق الأوسط.
تعد الصين المنطقة تربة خصبة للاستثمارات في مجالات الانظمة المائية والطرق والجسور وشبكات الكهرباء وغيرها من المكملات الاساسية للبنى التحتية التي إما ان تكون قد أغفلتها التنمية كلياً أو تعرضت للتداعي الشديد بسبب عقود من الحروب.
أنفقت الصين في العراق ما يقارب 24 مليار دولار منذ العام 2005 ذهب الجزء الاعظم منها في مشاريع الطاقة، وفقاً لما أورده “متتبع الاستثمارات الصينية في العالم” وهو مشروع مشترك بين معهد المشروع الأميركي “أميركان إنتربرايز” ومؤسسة التراث “ذي هيريتاج”.
على مدى السنوات الـ 15 الماضية استثمرت الصين في مختلف انحاء الشرق الأوسط وشمال افريقيا مبالغ تقارب 200 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتنامى هذا الرقم طردياً على مدى سنوات العقد القادم حين تدخل ستراتيجية “الحزام والطريق” مرحلتها التالية.
نسبت مؤسسة “آسيا تايمز” (وهي مؤسسة إعلامية باللغة الانكليزية مقرها هونغ كونغ تغطي مواضيع السياسة والاقتصاد والاعمال والثقافة من منظور آسيوي – المترجم) الى رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي قوله للرئيس الصيني “شي جنبنغ” خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الى بكين في شهر تشرين الأول الماضي: “لقد عاش العراق ظروف الحرب والصراع الأهلي، وهو يشعر بالامتنان للصين على دعمها القيم، ويعرب عن رغبته في العمل معها ضمن إطار مبادرة - حزام واحد وطريق واحد”.
رغم الحضور العسكري الأميركي الكبير في العراق تبرز الصين كأكبر شريك تجاري للعراق كما ان الأخير يمثل ثاني أكبر مجهز لأسواق النفط الصينية الواسعة.
بلغ اجمالي الاستثمارات الصينية الخارجية منذ العام 2005 رقماً فلكياً هو ترليونا دولار، ناهيك عن آلاف المشاريع الجديدة التي لا تزال قيد العمل. كان مشروع الرئيس “شي” المسمى “الحزام والطريق” في الأصل حين أعلن عنه وسيلة لإعادة بناء شبكة “طريق الحرير” التجارية التاريخية القديمة، إلا أنه اليوم صار يضم بلداناً من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية. أما بالنسبة للولايات المتحدة، العالقة مع إيران في صراع شرس لتثبيت نفوذها في العراق، فإن ثقل الصين الاقتصادي باتت له تداعيات جيوسياسية بفضل ما للأموال المتدفقة على دول مثل العراق من أثر في تعزيز عرى علاقاتها مع بكين.
تأتي الاستثمارات الصينية في كثير من الاحيان على حساب الشركات الأميركية التي تسعى للتنافس في المجالات نفسها. فقد حذر وزير الخارجية الأميركي “مايك بومبيو” وآخرون من كبار المسؤولين في ادارة ترامب خلال الاسابيع الأخيرة دول المنطقة ودعوها لتوخي الحذر عند التعامل مع الصين. قال هؤلاء المسؤولون إن من يتعاملون مع مبادرة الحزام والطريق غالباً ما يستدرجون الى التورط في ديون تثقل كاهلهم وتشلهم، وأن الشركات الأميركية تقدم لهم عقوداً أكثر شفافية من تلك بكثير كما توفر لهم حماية بيئية أعلى وعمالة أفضل تأهيلاً ومستوى أداء أرفع.
لكن يبدو مستبعداً أن يصغي أحد من بلدان الشرق الأوسط الى تلك التحذيرات. يقول المحللون إن العراق وجيرانه يجدون الشراكة مع الصين أكثر جاذبية كما أن اقناع الشركات الصينية بالعمل في المناطق الخطرة أو القلقة يكون أسهل في أغلب الاحيان وأدنى كلفة.
إضافة لذلك فإن اسلوب الصين، الأقل شفافية، في تنفيذ الاعمال يأتي معه احياناً بمكاسب سياسية للبلدان التي تنفذ فيها المشاريع، كما أن المعهود من بكين عادة عدم مطالبتها تلك الدول بإجراء اصلاحات سياسية كثمن مقابل لعقد الصفقات.
يقول “جوناثان هلمان”، مدير برنامج “إعادة ربط آسيا” في مركز الدراسات الستراتيجية والدولية: “هنا بالضبط، في بيئات العمل الأشد خطورة ومجازفة بشكل خاص، تكون مبادرة الحزام والطريق في أوج نجاحها، لأن المستثمرين الغربيين لن يكون لديهم الاستعداد في اغلب الاحيان لركوب مجازفة العمل في تلك الاماكن، أو انهم قد يعيدون حساباتهم ثم يفرضون مخصصات اضافية مقابل الخطورة، وأي مخصصات مهما بلغت لن تكون كافية في نظرهم كتعويض عن الخطورة”.
أما الصينيون، كما يمضي هلمان مستطرداً، فإنهم يوقعون الصفقة ثم يباشرون العمل بها بشكل اسرع، كما أنهم مستعدون لبناء المشاريع على نحو يتلاءم مع الجداول الزمنية السياسية. يقول: “لا يتبع الصينيون في عملهم كتاب القواعد نفسه الذي تسير عليه الشركات الأميركية .. فالنهج الصيني أكثر ضبابية كما أنه يترك الباب موارباً امام تناقل الأموال من يد الى يد”.
رغم تنحي السيد عبد المهدي مؤخراً عن منصبه يواصل المسؤولون العراقيون الحديث عن علاقات تجارية تزداد عمقاً مع الصين. هذه العلاقة عززتها العقوبات الأميركية القاسية المفروضة على الجارة إيران، التي نحت هي الأخرى الى التعامل بقوة مع بكين بعد أن واجهت اغلاقاً فعلياً للاسواق الغربية أمامها.
كتب وزير الكهرباء العراقي لؤي الخطيب مؤخراً يقول، كما أورده موقع “أويل برايس دوت كوم”: “الصين هي خيارنا الرئيس كشريك ستراتيجي على المدى البعيد.”
 
لا أحد غير الصين
تنظر الولايات المتحدة الى براعة الصين وطموحها الاقتصادي في معظم الاحيان عبر منظار المنافسة والسباق بين أمتين للهيمنة على القرن المقبل كقوة عظمى. أما في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشمال افريقيا فإن الأمر ينظر اليه بطريقة مختلفة بالمرة، فكثير من المسؤولين الاجانب ينفون عن أنفسهم أي تصورات بأنهم يتحيزون الى جانب دون آخر في اطار المنافسة الأميركية الصينية الأوسع.
بدلاً من ذلك يقول هؤلاء المسؤولون إن بلدانهم ببساطة واقعة في حاجة ملحة للاستثمار في البنى التحتية، وأن الصين قد أبدت رغبة وتطلعاً للعمل معهم خلافاً لما أبدته الولايات المتحدة خلال السنوات الاخيرة.
في باكستان مثلاً تتولى الصين مشاريع استثمارية ضخمة للغاية، حيث تكشف الارقام أن قيمة الاستثمارات على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية قد بلغت 56 مليار دولار على الأقل، وهي تشمل الطرق والسكك الحديدية، بالاضافة الى بناء ميناء جديد رئيس مطل على بحر العرب. كذلك رسمت الدولتان خريطة للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهي خطة تضع الركائز الأولى لحشد من المشاريع الكبرى التي ستتولى الشركات الصينية تنفيذها حتى العام 2030.
انطلقت المبادرة المذكورة في العام 2014. يقول السفير الباكستاني لدى الولايات المتحدة أسد خان في مقابلة مع صحيفة واشنطن تايمز: “بكل صراحة أقول إن ما من أحد قد التفت في ذلك الحين الى باكستان كوجهة للاستثمار غير الصينيين. لهذا السبب كنا ممتنين للصين غاية الامتنان كأمة لما عرضته علينا”.
يمضي اسد خان فيقول: “كنا نعاني شحاً في الطاقة الكهربائية يصل في بعض المناطق الى 18 ساعة يومياً بسبب العجز بين التجهيز والطلب. ثم جاءت استثماراتهم فساعدتنا على توليد ما يكفي من الكهرباء بحيث لم يعد لذلك العجز اليوم وجود. فبالنسبة لرجل الشارع الباكستاني كان الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني يعني مزيداً من النور”.
استعداد الصين للاستثمار في أي مكان من المنطقة امتد حتى وصل الى سوريا، التي نال منها الخراب بعد حرب أهلية قاربت عقداً من الزمن وتهاوى اقتصادها وتداعت بناها التحتية. فقد بدأ الرئيس السوري بشار الاسد بعقد لقاءات مع كبار المسؤولين الصينيين للتداول معهم بشأن فرص استثمارية في بلده لا ترغب الدول الغربية في القيام بها.
في شهر كانون الأول الماضي أجرى الاسد مقابلة مع محطة تلفزيون فينكس، ومقرها هونغ كونغ، فقال: “لقد كنا نحجم في الماضي عن الدخول في محادثات مع اصدقائنا، وفي المقدمة منهم الصينيون، بشأن اعادة البناء، لأن الوضع الأمني لم يكن يسمح لنا بالمضي في هذه العملية على نطاق واسع. اما اليوم، وبعد أن تحررت معظم اراضينا، فقد باشرنا إجراء محادثات مع عدد من الشركات الصينية التي تمتلك خبرة في مجال اعادة الاعمار”.
 
الولايات المتحدة تضغط بالمقابل
يطرح المسؤولون الأميركيون بشكل متزايد على الدول التي تتعاقد مع بكين لتنفيذ مشاريع لديها حجة مفادها أن الارتباط بأعمال مع بكين ينطوي على مجازفات وأن التعامل مع الشركات الأميركية هو الطريق الأفضل والاسلم.
في الاسبوع الماضي قال بومبيو متحدثاً من كازاخستان أنّ الشركات الأميركية تقدم منافع لا يمكن للصين أن تقدمها. قال بومبيو: “نحن ندعم تماماً حرية كازاخستان في اختيار البلد الذي تحب اجراء أعمالها معه.. أي بلد على الاطلاق ترغب فيه.. ولكنني على يقين من أن الدول تجني افضل النتائج حين تجعل من الشركات الأميركية شريكاً لها. فأنت هنا تحصل على صفقات عادلة ونزيهة، كما تحصل على فرص عمل ووظائف وعلى عقود شفافة، وتتعاطى مع شركات معنية بقضية البيئة ناهيك عن انك تحصل على التزام بمستوى من الاداء لا يضاهى. فالشركات الأميركية لديها الحافز بطبيعتها للتصرف على هذا النحو، لإنه ببساطة نظام العمل الأميركي”.
يقول المحللون إنّ مبادرة الحزام والطريق الصينية في واقع الأمر تنتج في كثير من الاحيان صفقات أعلى كلفة مما كان متفقاً عليه، أو يكون العمل المنفذ أدنى من حيث النوعية. سريلانكا خير مثال على مثل هذه الحالات، فهي قد اجبرت على التخلي عن حصتها كطرف يملك الحصة الاكبر في احد موانئها الرئيسة لصالح الجانب الصيني بعد أن عجزت عن سداد ما ترتب عليها بموجب مشروع الحزام والطريق.
يقول هلمان: “على طول مسار الحزام والطريق تتناثر امثلة من هذا القبيل، عن شركات صينية تفرض مصالحها على البلد الآخر المستقبِل حين لا يمتلك ذلك البلد الادوات التي تتيح له تقييم المقترحات المعروضة عليه تقييماً موضوعياً”.
بيد أن كثيرا من الدول النامية في العالم، المفتقرة الى النقد السائل، ترد على هذه الحجج بحجج مقابلة. يقول السفير اسد خان إن حجم الدين الذي تحملته باكستان لقاء ما تعاقدت عليه من أعمال مع الصين لا يساوي جزءاً يسيراً مما تدين به لباقي دول العالم، على حد تعبيره.
يقول أسد خان: “تخطئ الولايات المتحدة كل الخطأ حين تضع نفسها قبالة الصين على مسرح الاستثمار 
العالمي”. 
ثم يكمل: “نحن لم نتقبل اموال الصين مقابل استبعاد سواها، وأعتقد أن الضغط على الدول الاخرى لجعلها تختار طرفاً دون طرف ليس من الحصافة أو الحكمة 
في شيء”.