أمنية مبدع

الصفحة الاخيرة 2020/02/16
...

حسن العاني 
على كثرة الذين جذبهم طابور الواقفين امام باب السلطان، ودخلوا البلاط وقبلوا الارض التي يمشي عليها، وعلى كثرة الذين تغنوا بطوله وعرضه وطلعته وافكاره وافعاله وبطولاته، طلباً للدنانير والمكرمات، او طمعاً في الحصول على مركز مرموق، او حفاظاً على منصب لا يستحقونه، او استجداء لوظيفة يحلمون بها، او خوفاً من تقرير مخبر سري او حزبي حاقد لأسباب شخصية، وما بين هؤلاء وهؤلاء، فريق يمدح طوعاً وايماناً وقناعة الا هذا الصديق القامة الفارعة من الابداع، نأى بنفسه عن تلك الكثرة ووقف صامداً في وجه الريح العاتية، لم ينحن له جذع ولم ينحرف بقلمه يوماً الى غير وجهته قانعاً بحياة الزهد وخشونة اللقمة، لا يلتفت الى رؤوسٍ من حوله تنثر عليها دراهم الذهب بلا حساب وهي لا تستحق دراهم النحاس، ولم تسوّل له النفس ضعفاً، او تشتهي طعام الامير على ما فيها من جوع، وحاجة الى لحمة تسند القلب وترم العظم وتعافي البدن!!
كذلك امضى الرجل سيرته، منذ خمسين او يزيد من السنوات العجاف، منصرفاً الى كتبه واوراقه ومراجعاته ومتابعاته، وهو في ذلك كله، قارئ نهم ومثقف موسوعي، ومبدع متعدد المواهب والمذاهب، كتب في النقد التشكيلي بحوثاً ودراسات تعد مرجعاً لا غنى عنها للمشتغلين في حقل الفن، وكتب في النقد الادبي مقالات وآراء تعد مرجعاً للعاملين في حقول الادب، ونشر عبر رحلة العمر الطويلة دراسات بالغة الاهمية في ميادين الفكر والفلسفة، واتحف المكتبة الثقافية بعدد من الروايات والمجاميع القصصية، ولم يكن اقل شأنا في رحاب الرسم، حيث اقام في داخل العراق وخارجه العديد من المعارض، لفتت اليها الانتباه، وفوق هذا وذاك كان الرجل ومازال، علماً بارزاً من اعلام الصحافة العراقية، سواء في كتابة (العمود) أم التحقيق ام فنون العمل الصحفي الاخرى، بحكم ما يتمتع به من رشاقة الاسلوب وعمق الفكرة وجزالة اللغة. 
الغريب ان هذا الانسان المبدع، غير ميال الى التذمر او التشكي أبداً، على الرغم من ظروفه الحياتية الصعبة، وما عاناه من اهمال على مدى خمسة عقود، والاغرب ان الابتسامة الوديعة لا تفارقه، و(النكتة) الساخرة حاضرة على لسانه، ولعل من اطرف ما يحضرني هنا، انني التقيته قبل بداية السنة الجديدة 2020 وسألته سؤالاً عرضياً عابراً عن امنيته للعام المقبل، فأجابني على الفور (أتمنى ان أموت!)، ومثل هذه الاجابة المستفزة دفعتني الى أن اسأله مجدداً (لماذا؟) فرد علي وهو يضحك بسعادة غامرة: لعل الدولة (تتفطن) وتقيم لي حفلاً تكريمياً، أو تشمل اسرتي براتب شبكة الرعاية الاجتماعية!!