لنبدَأ الحكاية من البداية، البداية كلمة، والكلمة هي: الدولة، طبعا لا أتحدث عن نموذج ما قبل الدولة الحديثة، فالدولة التقليدية السلطانية سقطت منذ عام 1258، حيث دخل العراق في دوامة من الحروب والتراجعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي لم تنته بالاحتلال البريطاني في مطلع القرن الماضي، انما اتحدث عن الدولة الحديثة، التي كان من المفروض ان تنشأ مع ظهور العراق الجديد، ولكن لم يتحقق ذلك، ولم يكن بالامكان اعادة تجربة بناء الدولة في اليابان والمانيا، بعد عام 2003، لاسباب لن اتطرق اليها حاليا، والسبب الاكثر ظهورا هو ان القوم الذين مسكوا زمام الامور بعد عام 2003 لم يكونوا على مستوى بناء دولة، فضاعت 16 عاما اخرى من عمر العراق، وظل الغائب الاكبر هو: الدولة.
في البدء كان الكلمة، وكلمة البداية هي المشروع الحضاري الحديث لبناء الدولة، مشروع بناء الدولة الحضارية الحديثة، هذا ما يفتقده العراق الآن، وهذا ما ينبغي ان يشكل نقطة شروع كبرى حالمة، وهذا ما لم تلتفت اليه الاحزاب الايديولوجية التي شغلت المسرح السياسي العراقي منذ تشكيل الدولة الحالية والى اليوم.
واذْ يتظاهر الشباب والشابات في العراق، بهتافات شتى، فان عليهم وعلينا ان نعرف ان العلة في العراق لا في الانحراف السياسي ولا في الفساد الحكومي ولا في تردي الخدمات ولا في البطالة ولا في ارتفاع نسبة الفقر، فهذه كلها مظاهر خارجية للعلة الاساسية التي انتجت هذه الظواهر، والعلة الاساسية هي: التخلف الحضاري في المجتمع العراقي، وحين نتحدث عن بناء الدولة الحضارية الحديثة، فاننا البداية لا بد من ان تكون من معالجة التخلف الحضاري، لا يمكن اقامة دولة حضارية حديثة في اي مجتمع قبل معالجة التخلف الحضاري فيه.
والتخلف الحضاري هو خلل حاد في المركب الحضاري يحول دون اشتغال عناصر هذا المركب بصورة منتجة للسعادة والحياة الكريمة، يتألف المركب الحضاري من خمسة عناصر هي: الانسان والارض والطبيعة والعمل والعمل، ومن تفاعل هذه العناصر في ما بينها تظهر، او لا تظهر الحضارة والدولة الحضارية، الامر يعتمد على كيفية تفاعل هذه العناصر، وهذه الكيفية تتحدد بمنظومة القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري، فهذه القيم هي التي تحدد طبيعة التفاعل بين عناصر المركب الحضاري، وهل هو تفاعل منتج للتقدم والسعادة او تفاعل منتج للتاخر والبؤس، و ينتهي الامر بنا ان نقول ان اقامة الدولة الحضارية الحديثة مرتبطة ببناء نظام قيمي صالح قادر على توظيف واستثمار عناصر المركب الحضاري بصورة صالحة.
يعود الخلل في المركب الحضاري للمجتمع العراقي الى عام 1258 وما حوله، وهو العام الذي شهد سقوط بغداد تحت الاحتلال المغولي.
كان ذلك الحدث نكسة حضارية كبرى ألمت بالمجتمع العراقي و لم يستطع حتى الان النهوض منها، ومع ان بعض المحاولات قد حصلت لمعالجة هذا الخلل، الا انها لم تكن بالعمق الذي تتطلبه المشكلة، فلم تفلح، ولهذا بقي المجتمع العراقي متخلفا بالمقياس الحضاري، اي بالقياس الى المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به.
ويمكن في هذا السياق فهم خطبة المرجعية الدينية في الجمعة الماضية وهي تدعو الى الاهتمام بالقيم الاخلاقية الرفيعة والتمسك بها، حيث بينت ان “القيم والأخلاق ضرورةٌ حياتيّة في جميع مجالات الحياة للفرد والمجتمع، بل لكلّ المجتمعات البشريّة مع قطع النظر عن كونها تنتمي لدينٍ سماويّ أم لا تنتمي”. وانها “ركيزة أساسيّة لسلامة العلاقات الاجتماعيّة وقوّة هذا المجتمع، الذي ينشأ منه التعاون والتكافل والتعاضد الاجتماعيّ الذي يحقّق منه الفرد والمجتمع حاجاته الأساسيّ. وهي ايضا “ركيزة أساسيّة لسلامة التعاملات الاقتصاديّة من الظلم والاستغلال”. وهي “ركيزة للاستقرار النفسيّ للفرد والمجتمع.” وهي “ركيزة لتقدّم ورقيّ وازدهار المجتمع بصورةٍ عامّة. «
واذا ما تم تشخيص اهمية القيم في البناء الحضاري للمجتمع والدولة. فلا بد من ان نشير كما اكدت المرجعية الى اهمية “تركيز الوعي الفرديّ والاجتماعيّ بأهمّية الأخلاق والقيم منظومةً وسلوكاً والعمل على تحويلها إلى ثقافةٍ عامّةٍ وممارساتٍ تطبيقيّةٍ.” وذلك عن طريق”إعطاء منظومة القيم والأخلاق استحقاقها في التثقيف بها في المدارس الابتدائيّة والثانوية والجامعات بقدر ما نُعطي الدروس الأكاديميّة من الاهتمام.»
وهذا يستدعي وجود نظام تربوي قيمي وحضاري حديث تتولى وزارة التربية تنفيذه في سنوات الدراسة الـ 12 عاما بحيث يكون بامكان المدارس تخريج جيل جديد قادر على تجسيد القيم العليا في كل دورة دراسية كاملة.