ملامسة الواقع!

الصفحة الاخيرة 2020/02/19
...

 جواد علي كسّار
 
نقرأ الكثير من الأوراق الجادّة التي تبحث عن أزمة الواقع في بلدنا وترسم الحلول للنجاة منها، لكن شيئاً لا يكاد يتغيّر على الأرض إلا بصعوبة، بل قد يشي الواقع ولو في بعض أبعاده، بقفزات صوب المزيد من التأزّم والتخلف.
لا ريب أن الخطأ لا يكون في الأفكار والرؤى دائماً، وإنما بعجزها عن ملامسة الواقع، فمن غير الصحيح ربط كلّ عناصر الواقع بالفكر والثقافة والنظر وحدها، بحيث تُختزل معادلة التقدّم بتوفّر الفكر السليم، والثقافة المعافاة والنظر العقلاني الصائب، من دون ملاحظة صلة الفكر بالواقع وبقية مرتكزات التغيير.
في المقابل يُفسّر كلّ إخفاق وفشل على أساس إخفاق الثقافة وفشل الفكر؛ بهذه النظرة يغدو الفكر وحده، وتتحوّل الثقافة بمفردها إلى «الأداة السحرية» التي تستطيع قلب الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بالاتجاه الذي نريد!
للثقافة من دون شك دورها وللفكر مكانته ومرتبته التي تسبق العمل، فلا عمل بدون نظر وفكر، ولا نقاش في أن الفكر والنظر هما الشرط الذي يسبق العمل ويتقدّم عليه، وما من حركة إلا ويحتاج فيها الإنسان إلى معرفة كما في الحديث الشريف، لكن مجرد توفير الفكر السليم لا يعني تحوّلاً إيجابياً فعالاً في الواقع، إنما يحتاج الفكر إلى شروط أخرى تمنحه الفاعلية، كما إنه يخضع لمؤثرات موضوعية (خارجية) من داخل بيئة المجتمع أو من خارجه يمكن أن تشلّ فاعليته، ومن ثمّ لا مناص من ربط الفكر ووصله بالواقع عبر منحه وظيفة تغيرية في حياة الناس.
على أساس ذلك لا يكفي أن نقول، إن بتغيير الثقافة والفكر وحدهما يتغير الواقع تلقائياً. فالتغيير عملية مركبة لا تخضع لعامل واحد حتى لو كان بأهمية العامل الفكري. إنما الصحيح أن الفكر شرط في التغيير، وعنصر لا بدّ منه، تظهر فاعليته إذا كان يعبّر عن المكوّنات العقلية والشعورية لما يعتقد به المجتمع ويؤمن به، وتبدو آثاره إذا تحرّك بمعية العناصر الأخرى.
من هنا فإنّ إبداع الفكر وملء بطون الكتب منه وإيجاد البدائل النظرية، لا يُغني وحده في تغيير الواقع إيجاباً. وهذا ما يُفسّر لنا بعض أسباب إخفاق المشاريع النهضوية التي سادت المحيط العربي ـ الإسلامي منذ أكثر من مئة عام، فرغم ما كانت تتسلح به من مناهج محكمة أحيانا ونظر عميق، فقد كانت تنسج حول نفسها أفكاراً مفصولة عن الواقع، معزولة عمّا يحرّك الناس فعلاً، فتتلاشى وتختنق داخل الشرنقة التي أحاطت بها 
نفسها.
الفكر التغييري ليس معارف متراكمة مفصولة عن العناصر الأُخر، ومكدسة في الذهن، بل هو مواصلة اجتماعية مستندة إلى نظام من العلاقات العامة وإنتاج المعارف. والمهمّ الذي يترتب على هذا الفهم إن: «ما يمكن عمله في الذهن من توفيق، ليس من الممكن عمله بالضرورة على مستوى الواقع» وذلك لأن: «للثقافة بنية اجتماعية موضوعية، ولا تتغير وظائفها إلاّ إذا تغيرت هذه البنية الكلّية» كما يكتب أحد الاجتماعيين العرب.