أخلاق الساسة وقيم المجتمع

الثانية والثالثة 2020/02/23
...

ابراهيم العبادي 
 
يُجمع العراقيون في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ بلادهم على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها وحصر السلاح بيدها (مؤسساتها الرسمية) ونفاذ القانون على جميع مواطنيها، بلا امتياز لأحد على احد ولا تفضيل لفئة على اخرى، فتساوي المواطنين امام القانون وخضوع الافراد لسلطة الدولة وانضباطهم بتعليماتها واجراءاتها، من بديهيات الدولة الديمقراطية منذ ان ولدت مؤسسة الدولة الحديثة الدستورية،  واصبحت ملزمة بالتعامل مع الافراد بصفتهم مواطنين لهم حقوق على الدولة، مثلما عليهم واجبات تجاه الدولة، هذا هو شرط استقامة احوال  البلاد لمنع تزاحم المصالح وتضارب الاهواء وسيادة منطق القوة في العلاقات الداخلية، فالغاية هي جعل الجميع يتصرفون  وفقا لمنطق القانون ومدونة الحقوق والواجبات، واي خروج على هذه العلاقة يدفع المواطنين بصفتهم الفردية او عبر مؤسساتهم السياسية (الاحزاب) او بواسطة منظماتهم المدنية (الجمعيات المدافعة عن الحقوق) للخروج باحتجاج عام ينذر السلطات ويعترض على خرقها لهذه الحقوق، طبعا كل ذلك مشروط بتوافر اخلاق سياسية واعراف وتقاليد وقيم تؤطر حراك الافراد والمؤسسات، فالثقافة القانونية والقيم الاجتماعية لها مدخلية كبرى في هذا السياق، فمنهما تنشأ الاخلاق السياسية ذات الارتباط 
بالمجال السياسي.
وللاخلاق دور مؤثر وخطير في جعل  المواطنين ينصاعون طواعية للقانون قبل ان ترغمهم سلطة الالزام والضغط، عندما يشعرون ان حرياتهم وسلوكياتهم ومصالحهم ومواقفهم محددة ضمن اطار مصالح الجماعة الوطنية، ومن مصلحة الجميع ألاّ يتجاوز أحد بما ينقص أو يضر أو يخل بمصالح الاخرين .
لقد أدت مرحلة النظام الشمولي والاستبداد الطويل الى ضياع ثقافة المصلحة العامة والخضوع لمنطق القانون، واصبح الافراد يتصرفون وفقا لمصالحهم وانانياتهم، نتيجة لتحول الدولة الى غول كبير يفترس مصالح الافراد ويلغي كراماتهم ويسحق حقوقهم، ولذلك توجب التثقيف بشكل متواصل لاعادة التوازن بين الدولة والمواطن، والتوعية بأهمية التخلق باخلاق سياسية انطلاقا من اخلاق المجتمع العامة .
لقد كانت التفاتة مهمة من المرجعية الدينية العليا عندما كرست خطبة الجمعة 14-2-2020 للحديث عن هذا الموضوع الاساس، فشكوى المواطنين من تجاوز الساسة لاخلاق وقوانين الدولة الديمقراطية من فساد وحيازة غير مشروعة ونهم غير مسبوق للمواقع والاندفاع نحو التسلط، وإثراء على حساب الشعب وتدوير للثروة بين الخاصة على حساب العامة، قابله الافراد بتجاوز القانون ومحاولة الاخذ من الدولة بكل ما يستطيعون من حيلة ومكر وفساد، تقليدا للساسة وثأرا من السلطات وانتقاما من هذا الغول الذي اسمه الدولة، لان العلاقة لم تُشيّد وفق منطق الالتزام والتعاقد الصحيح والتوازن بين مصالح الافراد 
ومصالح المجتمع.
كانت الدكتاتورية ترغم الجميع ببطشها على الخضوع، فينصاع الناس خوفا لا اقتناعا، وعندما سقطت الدكتاتورية لم تعد للدولة شوكة ولا سطوة، فسادت الفوضى وسقط القانون وقويت سلطة العشيرة وظهرت الجماعات والقبائل السياسية المسلحة وفشت اخلاق السلب والنهب والعنف وتوزيع السلطة وفق منطق المحاصصة بين  الاقوياء والنافذين الذين يدعون تمثيل المكونات والطوائف والدفاع عن مصالحها .
لقد ساد تعارض كبير بين اخلاق الساسة وقيم المجتمع،  بما دفع الجمهور الى الاحتجاج والاعتراض لتصحيح العلاقة واعادة التوازن بين المجتمع والدولة كما هو جارٍ الان منذ الفاتح من تشرين الاول الماضي 2019، وما يجري من مماحكات حاليا لتشكيل الحكومة الجديدة يجسد هو الاخر طبيعة هذا الاختلال وتلاعب الاقوياء بالسلطة وصعوبة اقناع الفرقاء للاتفاق على صيغة جامعة ترضي مختلف الاطراف، رغم ان الحكومة انتقالية ومهمتها محددة، الامر الذي يشير الى صعوبات التخلي عن اخلاق (المغالبة) لدى المجتمع السياسي، والنزول الى اخلاق المسؤولية والالتزام بتمثيل مصالح العامة وليس الخاصة.