تجري تطورات كثيرة في الفكر والفلسفة وفلسفة العلم في عالمنا المعاصر، ولكن الكثير منها لا يزال بعيدا أو غائبا عن قارئنا العربي بحكم المشكلات المزمنة لتأخرنا الثقافي العام كعرب، وهو ما تناولناه في مقالات سابقة بالتحليل والأرقام والاحصائيات، وبحكم التأخر الشديد تحديدا في مجالي الفلسفة والترجمة على وجه الخصوص.
وقد أفرزت الحركة الفكرية والعلمية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين أسماء عديدة أسهمت وتسهم بمراجعات جذرية للكثير مما جرى وتأسس في القرن العشرين وما سبقه، ومن بين أبرز الاسماء المعاصرة هو المفكر والعالم والفيلسوف الفرنسي برونو لاتور Bruno Latour (م 1947)، الذي قادته بحوثه في مجال الأنثروبولوجيا الى تطويرات مهمة وجذرية في مجالات فلسفة العلم والفلسفة عموما، ولا سيما ما بات يعرف بـ (نظرية شبكة الفاعلين) (Actor Network Theory) التي يعد من أبرز روادها
ومؤسسيها.
البدايات
تتميز مسيرة برونو لاتور الفكرية بأنها ابتدأت من معايشته للوقائع موضع البحث، ومراقبته لها، وتوصيفه الدقيق لسياقاتها. فبعد أن ذهب الى ساحل العاج – بوصف الأخيرة مستعمرة فرنسية – لاحظ وجود شكوى مستمرة وسط الملاكات التدريسية الفرنسية من عدم قدرة الطلبة الأفارقة على استيعاب ما يدرّسه لهم الاساتذة في علم الميكانيكا. وقد ذهب البعض – كالعادة – الى ان الطلاب الافارقة غير مؤهلين فكريا لهذا الموضوع..الخ.
لكن برونو لاتور، عن طريق ملاحظة ومتابعة وتوصيف دقيق للمشكلة، حدد أن السبب يكمن في طريقة التدريس نفسها، ذلك أن طريقة التدريس لم تكن تُري عينياً المكائن موضوع الدرس للطلاب، قبل الذهاب الى شرح ميكانيكها وحركتها نظريا ورياضيا. وهذه الطريقة في المراقبة والتوصيف والتحليل، طبقها برونو لاتور بعد ذلك على (مدينة باريس)، لبيان ما يمكن تسميته «البنية المعرفية التحتية»، التي تشكل ادراك مدينة باريس في وعي سكانها.
لكن منهجية برونو لاتور شهدت منعطفا مهما، عندما تحول الى معايشة المختبرات العلمية في الولايات المتحدة.
فقد أخذ يتابع تفصيليا ما يجري في عمل العلماء، من جمع العينات من التربة، الى اختيار النماذج المحددة منها، الى التصنيف والتبويب والفهرسة التي يجري بها التوثيق، الى اجراء التجارب والأدوات المستخدمة في ذلك، وصولا الى النتائج التي يتم استخلاصها، وكيف يجري توثيقها وتعميمها، وكيف يتم استقبالها من الوسط العلمي والدوريات العلمية، ومن ثمّ كيف يمكن اقرار بعضها في نهاية المطاف بوصفها «حقائق علمية»، لتصبح بعدها موضع قبول عام.
الأشياء أيضا..لا البشر فقط:
ميزة رئيسية في منهجية برونو لاتور أو «نظرية شبكة الفاعلين» عن «علم اجتماع العلم» Sociology of Science، انه لم يقصر بحثه على السياقات التي يجري تكوين الحقائق العلمية فيها من زاوية البشر ومجتمعهم فقط، بل بيّن كيف أن “الاشياء” نفسها تدخل سياقات مختلفة.
وهذه نقطة رئيسية في نظرية شبكة الفاعلين، ذلك ان الموضوع تحول من مراقبة وملاحظة المؤثرات الاجتماعية على السياقات العلمية، الى ملاحظة ومراقبة السياقات التي تدخل وتتحول فيها “الاشياء” نفسها أيضا في سياق التجارب والنتائج
والتوثيق.
ففي كتابه (بسترة فرنسا) The Pasteurization of France يعود الى الاكتشاف العظيم الذي قام به لويس باستور Louis Pasteur، إذ يبيّن لاتور في ما يبينه،،
كيف ان الجراثيم كانت موجودة قبل تجارب باستور كعناصر طبيعية غفل في الطبيعة في سياق مختلف تماما عن السياق الذي أمست فيه بعد أن عزلها باستور في انية، ووضعها في ظروف مختبرية خاصة، لاجراء التجارب عليها، وما يترتب على ذلك علميا واجتماعيا وانثروبولوجياً، ذلك انها بعد ذلك فقط اصبحت مدركة بالنسبة لنا على هذا النحو تحديدا ودخلت في سياق المجتمع
والتاريخ.
وما تتطلبه نظرية شبكة الفاعلين في حالة معينة، سواء تعلقت بالعلوم الطبيعية او الاجتماعية، هو تحديد العناصر التي تشترك في تكوين الشبكة المعنية والسياقات التي تجري فيها وتأثيرها في بعضها البعض وتحولاتها أيضا في سياق هذه العلاقة والتغيرات.
وقد سعى لاتور الى نحت مفردة جديدة للتعبير عن الفاعل في هذه الشبكة، لا بوصفه عنصرا اجتماعيا فقط، بل الاشياء ايضا، وكان منه ان نحت كلمة (actant) بدلا عن
(actor). وتلعب هذه النظرية اليوم دورا مهما في مراجعة العديد من المواضيع في المجالات البحثية المختلفة العلمية وسواها، وفي النظرة العامة للعلم، والوجود، والتاريخ البشري، والفلسفة،
وفلسفة العلم.
الدلالات العميقة
وتصل استنتاجات وتحليلات لاتور الى اننا منذ بداية عصر الحداثة والتحديث، لم نأخذ شمولية الرؤية هذه بنظر الاعتبار،
وكان ذلك ان عناصر كثيرة من طريقة التفكير ما قبل الحداثية من العصور التي سبقت الحداثة تسللت الى الرؤية الاجتماعية العامة لعصر الحداثة، ويراجع في هذا السياق مؤلفات وافكار رواد علم الاجتماع إميل دوركهايم Durkheim وماكس فيبر Weber في كتابه الذي يحمل عنوانا لافتا، وذا دلالة مهمة، وهو (نحن لم نكن حديثين أبدا) We Have Never Been Modern.
وهذا بالطبع بعيد جدا عما تواضع عليه الفكر العالمي – بما في ذلك بعض الأصداء التي تصلنا منه هنا في العالم العربي – ذلك ان حركة الفكر أبعد ما تكون عن الاقرار بنتائج نهائية، حتى تلك التي يبدو بعضها ترسخ بمرور الزمن وبحكم القبول العام والتكرار والتواتر كمسلمات مفروغ
منها.
كما ان ما تقدم، لا سيما وضع مركز المعرفة لا في الانسان فقط، بل في الانسان والأشياء أيضا، يبين السبب الذي يتم ادراج فكر وفلسفة برونو لاتور فيها ضمن الاتجاهات المعاصرة لما بعد الانسانوية Posthumanism.