الحق المطلق عند العقل الاحتجاجي

آراء 2020/02/24
...

محمد شريف أبو ميسم
لا يبدو لادّعاء الحق المطلق الذي نتبناه في أحاديثنا وسلوكنا من تفسير إلّا في إطار التناقضات التاريخية التي رافقت نشوء وتطور أسلافنا على هذه الأرض، فورثنا، بنعمتها، خلافاً حتى في تفسير الظاهرة ذاتها، 
متشبّثين في طرف من أطراف معادلة التفسير على حساب الطرف الآخر منها؛ فتارة قساوة الصحراء التي فعلت فعلها في التكوين الجيني لموروثاتنا العقلية، وأخرى النزعات البدوية في اللاوعي، وسواها قروية التفكير، أو النزعة العشائرية، وفريق يعزوها لجغرافية الطفولة في بلد شهد سلسلة طويلة من الانقلابات العسكرية التي انتهت بعسكرة المجتمع إبّان الحكم الاستبدادي لأكثر من عقدين، في حين يقف بعضهم عند عنصر غياب العدالة الاجتماعية وازدياد الفوارق الطبقية بوصفها مدعاة لعدم قبول من صادر الحقوق لصالحه وزاد من أعباء تحمل المسؤوليات على 
غرمائه. 
وعلى النقيض، يرى الطرف الآخر، في تفسير الظاهرة، حقدا طبقيا، علاوة على ما يراه بعضهم بشأن ما كان مدعاة لتوريث عدم قبول الآخر، وهكذا وصولا إلى فكرة هيمنة الوعي التقليدي على المجتمع بوصفه وعياً طغيانياً قمعياً بحكم 
مكوناته. 
وفي الإطار التاريخي ذاته، تجتمع كل محاولات التفسير لتزيد من إصرار الآخر في قناعته باحتكار الحق لصالحه، ومن إصرارنا على حيازته، ما جعل مساحة الحوارات، على مدار سبعة عشر عاما، عقيمة وغير منتجة في كل المسائل الخلافية. 
نعم، قد نتفق جميعا مع فرانسيس فوكوياما  "إنّ ادّعاء الحق المطلق سلوك طغياني". ولكنِ اتّفاقنا هذا نابع من رغبة فردية في إدانة رأي الآخر ودعوته للقبول برأينا من دون مراجعة للذات، ودليلنا هنا هو ممارسة ذات السلوك المتطرف في وقت ندين هذا السلوك عند الآخر. وعلى هذا امتدّت مساحات الحوار لسنوات من منطلق رغبة التفوق على الآخر، وأغرقتِ الرأي العام باليقين الزائف، ادّعاءً وحقيقةً، لدى هذا الفريق أو ذاك. 
نعم، لا أستبعد هنا الدور الخارجي في صناعة هذا التطرف عبر توظيف التناقضات في الإرث التاريخي، بالتزامن مع تأثيرات أدوات العولمة الثقافية على الوعي الجمعي، التي أسهمت في صناعة عقل احتجاجي تحت مظلة الإرباك في المشهد الكلي المتخم بالتجاذبات، وصولا لمزيد من الإرباك باتّجاه بلورة معطيات صدمة التحول، بهدف القبول بالحلول الجاهزة التي لم يكن بالإمكان قبولها في السابق. وأقرّ أنّ الخطورة، هنا، تكمن في العقل الذي دجّنته أدوات العولمة الثقافية وصنعت القطيعة بينه وبين مجموعة الأنا الأعلى، 
وصولا لقناعات القبول بالحلول الجاهزة على ضوء الإبهار الناتج عن التأثيرات السمعية والبصرية لمخرجات شكل الدولة الحديثة، في الوقت نفسه الذي أظهر من التطرف ما يتجاوز حدود احتكار الحقيقة، حين مارس حقه الديموقراطي بسلوك استبدادي، فأطاح ببقايا أحلام القبول بالآخر في بيئة التكيّف مع مشروع الدولة المدنية القائمة على التعدد. 
ومن هنا تبدو الحاجة ماسّة إلى الاعتراف بالوجود الموضوعي لهذا العقل الاحتجاجي ذي السلوك المتناقض بوصفه الوريث الشرعي للوعي الاستبدادي الحالم بفضاء الحرية، ومن ثم التنقيب عن آثار سيرورة هذا العقل ووضع توصيف دقيق لسلوكه التعسفي تجاه الأغلبية الصامتة، باتجاه البحث عن مخرج له ولنا من شرنقة الإمساك بالحقيقة واحتكارها نحو القبول بالتوزيع العادل للحرية، وبخلافه فإن هذا العقل الذي سيقود المراحل المقبلة، معرض للنكوص نحو الاستبداد بمعاول ديموقراطية، من منطلق القوة في إطار سياسة ليّ الأذرع ما سيجعله خامة مناسبة لمشروع النفوذ والهيمنة الخارجية في سياق عولمة واقعها الغلبة تحت مظلة سلطة المال.