يا لها من مرارة ، أن تكتشف وأن تسير في الدروب العراقية الضيقة أو المهملة ، نجوما غادرت سماءها إلى تربة هذه الأرض بصمت عجيب ، نجوما تبزغ في سماوات الكتب وتختنق بين خطوات اهلنا وامام أعينهم ، انها مدن سومرية وبابلية واشورية وأكدية وغير ذلك ، مدن ملكت الارض وشغلتها لقرون عديدة ، ولكن اهلنا ساسة وشعبا ما زالوا يمرون عليها مرور العابرين ، مدن وآثار ما أن ترفع قليلا من غبار الزمن الذي تراكم على سطور حياتها ، حتى يشع عليك سطوع يبهر النهارات ، هكذا يشعر الباحث او المتسائل عن حضارة العراق واثارها الغائبة عن الاهتمام ، ذلك الاهتمام الذي يفترض أنه يتناسب وأهمية
منجزها .
انها الحياة العراقية بحزن ظروفها ، بعجائبية ما تمر به من موت وخراب يتوالد فيكسر أغصانا كان يمكن لها أن تملأ السماء ثمارا ناضجة ، اغصانا هجرتها عصافير التلقي بعد ان استوطنتها اسراب من الشظايا .
لا تضع قدمك في ارض رافدينية ، إلا وتحت ترابها ما ينتمي من أثر لحضارة عراقية قديمة ، ولا فرق حينها بين خطواتك إلا في أهمية وقدم ذلك الأثر ، يعرف الباحثون الاثاريون انني لست مبالغا ابدا ، فلا ترابا عراقيا من دون تاريخ مزدحم بالملوك والانبياء والاديان والمذاهب والقوميات . كل هذا خزين من نور يمكنه ان يكشف مفاتن تلك الحضارات في ذاكرة البلاد ، الذاكرة التي هي الرصيد المعنوي لكل امة ، او هي المرجع القيمي للشخصية ، والكنز الذي يجب على الجميع الانتباه الى الحفاظ عليه من دون دفنه في التراب كما نفعل حاليا مع
كل ما نملك .
عندما تجد شعوبا تغزو الارض بثقافتها العلمية والادبية وبتماسكها الاجتماعي وقوتها العسكرية ، على الرغم من أنها لا تملك تاريخا مشتركا إلا مائة او مائتين من السنين ، حينها يلف حسراتك الالم وأنت تعيش بين الاف الاثار المقبورة بجهل بعض المسؤولين . جهل أدى الى غياب صناعة سياحة اثرية ، يمكنها ان تدر ارباحا لا تقل اهمية عن ارباح النفط فيما لو نُظرَ لها بعين الاقتصاد
المستقبلي .
الإهمال المتعاقب لآثارنا ، وجه شاحب من وجوه الإساءة لذاكرتنا ، هذه الذاكرة التي تقتل في كل حين على يد اهلها ، الا انها تعيش بما تملكه من مجد لا يستطيع التراب ان يطمر كل ما فيه ، ولا الماء ان يغرق انفاسه ، ولا الهواء ان يكسر ما تيبس من اغصانه ، ولا النار ان تذيب قوته الممتدة في جوف التاريخ ابعد
من الحديد .
كلما تحدث مثقف عن ضرورة الاهتمام بالاثار العراقية التي لا يخلو تاريخ عن ذكرها ولا متحف مما يدل عليها ، تعذر الساسة بالظروف الامنية والاقتصادية ، وحينها يُعذرون ، ولكن ماذا عن التذكير بهذه الاثار والتواريخ ؟ لماذا لا نجد تماثيل ونصب تخلد الملوك والمدن العراقية القديمة في سبيل تعزيز الحس الوطني المشترك على الاقل ، لماذا لا نجد احياء باسماء رموزنا او حضاراتنا ، من يعرف من ساستنا اول شاعرة في العالم (اخندوانا ) حفيدة سرجون الاكدي ، من يعرف (شولكي ) احد ملوك اور ، أو (اورنمو) لماذا نعيش في احياء ومدن باسماء تدل على العسكرة والصراعات والمذاهب والقوميات فقط ، السبب هو اننا جميعا نمارس هدرا كبيرا في ذاكرتنا وهذا واحد من مساوئ حياتنا.