ليس من الغريب أن يفند فوكو مفهوم الشَّك العقلّي الديكارتي فلا يعود الكوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود؛ بل سيحل محله بحسب فوكو أنا أفكر في الآخر الذي يفكر فيَّ. وهذا التلاقي ما بين الأنا والآخر هو نتاج الوعي بأهمية الانفتاح والتمرد فضلا عن كونه احتجاجا على نرجسية الكوجيتو.
ولقد وجد فوكو أن العقل وفق ديكارت غير مبدع جدا وانما هو بحاجة إلى الشعور بالجنون كبديل للعقل وبما يمكن الأفراد من اظهار قدراتهم على الابداع والابتكار، فأين بعد ذاك للهوية أن تتشكل ويتم إدراكها وفوكو أراد التخلص منها، رافضا الذات المتكلمة والذات العارفة والمقومِّة، معللا أن تحول اللاعقل إلى جنون يعد حافزا ضد المستحيل والمستعصي، فمثلا نحن في حاجة إلى جنون الحب للحفاظ على النوع ونحن في حاجة إلى هذيان الطموح لضمان سير جيد للنظام السياسي ونحن في حاجة إلى جشع لا معقول من اجل إنتاج الثروات.وكأن الحياة لا تعاش إلا إذا كانت جنونا.
وبهذا الوصف تتوكد عند فوكو جينالوجيا الذات التي تستبعد المنظور السياقي من ناحية عد الذات بناءً له تاريخ والتي تنقم أيضا على المنظور البنيوي الذي يرى الذات بناء مذوتنا في نفسه..وعن ذلك يقول فوكو في كتابه عن الطبيعة الانسانية:" أحتاج لأن اكون شيئا أكبر من إضفاء النسبية البسيطة على الذات الفينومينولوجية أنا لا اعتقد انه يمكن حل المشكلة بتاريخ الذات.. اختراع ذات تدور حول سياق التاريخ. على المرء ان يتخلص من الذات المقومة من الذات نفسها ..وهذا ما يمكن ان أطلق عليه الجينالوجيا أي شكل من التاريخ يمكنه ان يشرح تكوين المعارف والخطابات ومساحة الموضوعات"
ولهذا لم يكترث لهوية هذه الذات ولم يأبه لتحديدها لأنها غير محددة أصلا ما دامت عظمة الانسان تكمن في عزمه على تجاوز وضعه ليكون حرا. وهذا التحرر قد يصل إلى التمرد لتكون النتيجة السفر بلا حدود أنها لا نهائية التاريخ والعدمية ويقدم مثالا تطبيقيا يربط الجنون الذي عرفه مخيال عصر النهضة ممثلا بسفينة الحمقى بالإقصاء الاجتماعي الذي امتد لقرنين أو أكثر وكيف اختفى الجذام ومثلما أن الإبحار والماء لعبا هذا الدور في الماضي فكان المجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه وقد سلَّم أمره للنهر ذي الأذرع المتعددة ..انه يسلم نفسه إلى عالم اللا يقين الرهيب خارج كل شيء فكذلك تكون حقيقة الانسان المعرفية في حاضره اليوم فهو في سفينة.. والماء والإبحار وحدهما اللذان يرسمان له مصيره حيث لا هوية ولا انتماء ولا وطن..
المخيال الأدبي
ويحمله ربطه عصر النهضة بالحاضر إلى أن يتساءل برؤية انثربولوجية: هل المخيال الأدبي يتبع ما ساد في ذلك العصر أم العكس؟ وهذا يعني أن فوكو لا يرى العقل الغربي قد طور بنياته الإنتاجية المعرفية، وإنما ظل مشدودا إلى عقلية كلاسيكية وأن سخرية هذا الوضع ـ بحسب فوكو ـ تجعل الجنون يحل محل الموت، وأن في اختصار الانسان(الذات/ الأنا) في لا شيء( لا كينونة/ لا هوية) انتقالا إلى التأمل الاحتقاري لهذا الشيء الذي هو الوجود ذاته ..وليس ذلك فحسب، بل أن الحياة في ذاتها لم تكن سوى تفاهات وكلام عبثي وصخب جلجل وصولجان.. وهنا نتساءل كيف يصبح للإنسان بعد هذا الإيضاح كيان وذات وهوية؟!!
وفي السياق نفسه يقرر فوكو أن في دخول الانسان في الجنون سعادة إلا إنه لا يعيد له البراءة وقد يتحكم في كل شيء حسن يقوم به الانسان في الطموح الذي يصنع السياسيين الحكماء في البخل الذي يؤدي إلى تزايد الثروة في الفضول الصريح الذي يحرك الفلاسفة والعلماء.وبديهي ألا يترتب على ذلك، أي انتماء وإذا سلمنا أن من سمات الزمن اللاتناهي، فعندذاك سيكون الانتماء هو الجنون وهو المرآة التي ترينا أن الصدام بين الوعي النقدي وبين التجربة التراجيدية هو ما يحرك الإحساس بالجنون، بينما يبقى الانسان المنتمي سادرا في تقوقعه فلا يرى الحقيقة والعالم.
العقل واللاعقل
وبناء على هذا الفهم يؤسلب فوكو الفكر العقلاني ويسفه نظرته الاستقامية في عد الجنون مرضا عقليا سواء في عصر الكلاسيكية أو عصر الحداثة. وينحاز إلى ما طرحه نيتشه عن كون الجنون ضروريا عادا ذلك بمثابة انفجار ضد الحداثانية، وقد انتهى إلى أن لا وجود لذات أو أنا أو كينونة خارج هذا التمثيل، وقد يترتب على هذا التقرير أن ملامح التذوتن وتبعاته من هوية وانتماء لن تتضح إلا في اللاشعور ليكون العقل مشابها اللاعقل الذي منه ينتج العقل مجسات كينونته حقيقة ومخيالا..
ولو افترضنا قبول ذلك التمثيل فعندها سيكون تجسد الذات مغايرا للحقيقة مشابها الدوامة وهذا اللواذ بالصمت حرك اهتمام فوكو وجعله يعيب على ديكارت كيف أنه أغفل الجنون فلم يكن يعنيه وأنه أزال خطره وحصن بالعقل نفسه من الجنون.
وإذا كان الجنون يساوي العقل في معادلة تجمع بينهما بتواطؤ؛ فإن لا حكمة إلا وترتبط بالجنون وقد قيل قديما( خذ الحكمة من أفواه المجانين) ولقد عرّج فوكو على توظيف الجنون في الأعمال الإبداعية لشكسبير وسرفانتس وبشكل واضح حيث الجنون هو الحياة اللامتناهية للموت..
وان إثبات حقيقة الوجود والإبداع لن يكون إلا بمغادرة العقل إلى اللاعقل ومن ثم ليس للأنا أن تتذوتن أو تثبت كينونتها إلا بالجنون.
وقد يجوز القول إن عدم فصل فوكو بين العقل واللاعقل في ممارسة التذويت كان ناتجا طبيعيا لنقده المتواصل لفلسفة ديكارت التي تبرم منها كونها أقصت الجنون من دائرة الفكر وهمشت المجانين كذوات إنسانية..ويدعم فوكو هذا الانتصار للجنون بأن يعد الكوجيتو ليس أصلا وفي هذا نقد ضمني لنظرة ديكارت الكلاسيكية للذات والعالم الخارجي غارزا في نسيج الثقافة الغربية كوجيتو جديدا يجعل الجنون واقعة متماسكة، وهو إذ ينتقد كوجيتو ديكارت، فانه يأبه كثيرا لفلسفة نيتشه الذي آمن باللاعقل وإغراءات الجنون والفيلسوف المجنون.
وقد جعل فوكو لارتباط الجنون بالوعي أربعة أشكال فأولا هناك وعي نقدي للجنون يتظاهر بالدقة وينقد الذات مجازفا بالارتماء داخل معركة مشكوك فيهاوثانيا هناك وعي تلفظي بالجنون وثالثا وعي بتجربة عملية ورابعا وعي تحليلي.
علما أن هذه الأشكال الأربعة يجعلها فوكو متضامنة مع بعضها غير مخالفة لمنطقية الأشياء وطبيعتها البديهية حيث اللاعقل يقود إلى العقل والجنون شبيه اللاكينونة والانا متأتية من غواية الآخر. وهكذا لا يعود أمام الذات حق في أن تمتلك هويتها الفردانية أو الجمعية إلا بعد أن تسلم زمامها لما هو لا عقلي ليتحول الامتلاك إلى انفلات والانتماء إلى تحرر والصيرورة الوجودية إلى هاوية لا نهائية.