مطر مطر

ثقافة 2018/12/15
...


 حميد المختار
اعمد دائماً في الاجواء الممطرة ان اصعد الى غرفة المكتبة وافتح النافذة الوحيدة والباب واوقظ الموسيقى من غفوتها ، ثم اقف امام رفوف المكتبة ومسوّدات روايتي ( تابو ) التي ظلت تنتظر اوبتي كثيراً ، مع المطر اشعر بخفة روحي وتوهان جسدي الذي يدفعني للتحليق في السماء الماطرة ، في هذه الاجواء تنفتح سموات الشعر وأبوابه وخلاياه فاجد نفسي امام الورقة البيضاء ساهماً غارقاً في عزف الروح وعزوفاتها عن الاجناس الاخرى ، الشعر حاسة شم ولفتة وعي وانتباهه وهج يضيء ظلمة الارواح الضائعة ، وحين اغيب عن وعي الحاضر ، اغور في طقوس قديمة ختمتها لي سفريات وارتحالات ثم اكتب على الورقة : لم تكن ثمة حافة امامي ، الزوارق راسية مقابل مقهى القبطان وانا بهيكلي الهش اقف على الشرفة 
والوّح الى موجة غريقة ، المدينة كلها سفوح وليس ثمة قمة الا منارة المقبرة التي توسطت المدينة ، في ايام الربيع يكون القطاف رائجاً في المقاهي والمطاعم والفسحات الضوئية ، لست حزيناً الان ، فقد تركت آفة حزني على متكأ الماضي، هناك خلف البحر والصحارى ، وحين وصلت الى هنا وجدت اصابعي العشرة تومئ الى جهة القلب : هكذا انا صرت في ايام المطر والسفر اتوق الى المجهول واحلم في تحقيق مشاريع مؤجلة لمديات طويلة، وحين اقرر العودة الى الورق المهمل امامي وروايتي المنتظرة اعود ثانية الى مدينة 
(روسبينا ) الممطرة بمينائها الساكن ومراكبها الراسية الغافية ، الميناء يحاصر سريري في الصباحات الباكرة اسمع خريراً تحت المخدة فاعرف ان الموجة الفتية تقترب عنوة مني وهي تحاول عبور الحافة الاسمنتية ، كل شيء مباح امام البحر الا الحزن الذي تكدس في قلبي ، كم من فرح طارئ صال هناك وجال، لكنه تراجع امام صلابة الحزن وهيمنته ، بينما البحر بفورانه يقطع علي سلاسل الوحدة والكآبة والاوجاع الباطلة بسلالتها الجائرة، هذا البحر السريع العابث العاشق الرفيق الزبدي الباقي في صخبه وتلوناته وجماله، يسارع الى اقناعي بضرورة القفز في احضانه والموت على شراشفه المبللة بالدمع، يسرع هو حين يرى مراكبه تعانق اجساد الموج ويقفز عالياً ليطغى على قمة الشراع والصاري، يلهث في جريانه محموماً حول المدينة النائمة، ويتوج الظهيرة كل يوم بدخان ورذاذ ويراعات 
ونوارس فضية ، بحيث انه صار يعلوا على العيون والاحداق التي ترمش في ظل الوهج وسعة الابدية الندية ها هو صوت تساقط المطر يعيدني ثانية الى غرفتي.