جورج منصور

آراء 2018/12/15
...

جورج منصور

من يدري ماذا كان يجول في مخيلة صدام حسين وهو يقرأ كتابه الأخير قبل أنْ يودع أيام النعيم والبذخ والتسلط والعنجهية والقسوة، وينتقل ليختبئ في تلك الحفرة بمزرعة الدور في مسقط رأسه بمحافظة تكريت، حيث اكتشف أمره يوم 13 كانون الأول (ديسمبر) 2003 وتم إخراجه منها واعتقاله، ثم محاكمته وإعدامه؟. زارني يوم 1 آب (أغسطس) 2003 في مكتبي بشبكة الإعلام العراقي في بغداد، مجند عراقي- أميركي كان ضمن الفصائل الأولى لحزب المؤتمر الوطني العراقي، التي دخلت الى بغداد مباشرة بعد سقوط النظام، وقدم لي هدية: كتاب ثمين عثر عليه في غرفة نوم صدام حسين.

 في الإهداء الذي خطه بيده على صفحة الغلاف، كتب: "أهدي لك هذا الكتاب وكان هذا الكتاب عند رأس صدام في قصر النداء أحد قصور نادي الفارس العربي على طريق المطار". وهو المجلد الأول من "موسوعة العذاب" الصادرة في بيروت العام 1999عن الدار العربية للموسوعات بسبعة أجزاء للباحث والمحقق العراقي المعروف عبود الشالجي.
الموسوعة غير عادية، لا في عنوانها ولا في مضمونها ولا في الوقت الذي صدرت فيه. وقد خصص المؤلف الجزء الأول لـ"الشتيمة" بأنواعها: الشتيمة مع ذكر الله تعالى والشتائم على النفي (اي المسبوقة بلا) وشتائم مختلفة، شتائم غير موجعة، المعايرة، المعايرة بالعاهة والمعايرة بالصناعة والمعايرة بالنحلة والمعايرة بالنسب والمعايرة بالأبوين، المعايرة بالصفات السيئة والمعايرة بالصفات الخلقية والمعايرة بالصفات العارضة، ألفاظ مختلفة في الشتم، تسمية المشتوم باسم حيوان، مجموعة ألفاظ في الشتيمة، الرفث في الشتيمة، طرائف في الشتم. ما يشبه الشتيمة، العفطة، الشتم بالإشارة أو التعريض، الثقل، عرك الاذن، السحب، الحصب، الحذف بما في اليد، الإلجام، والعذاب بالتغطيس في مستودعات القذر.
ومن يطلع على بقية المجلدات الستة، سيجد فيها العجائب والغرائب في أشكال وأساليب تعذيب وقهر الإنسان وقتله، والتي لا تزال تمارس في ظل الأنظمة القمعيَّة والدكتاتوريَّة. وإذا كان المجلد الأول يبدأ بأنواع الشتيمة، فإنَّ المجلد السابع ينتهي بمختلف أساليب القتل والتمثيل بالجثث (المثلة).
يكتب المؤلف في تعريف العذاب والظلم: "العذاب شعبة من شعب الظلم، والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، وفي الاصطلاح: إيذاء الناس وانتقاص حقوقهم، وهو خلاف التقوى التي هي مخافة الله، والعمل بطاعته". ثم يأتي بالآية الكريمة (فقطع دابر القوم الذين ظلموا).
ويتحدث بجرأة عن الظلم وعواقبه: والتاريخ مشحون بأخبار قوم بغوا وظلموا، فمنهم من عوجل، ومنهم من أمهل، غير أنَّ عاقبة ظلمه لحقت أولاده وأحفاده وأهل بيته، مصداقاً لقول النبي صلوات الله عليه: "من خاف على عقبه وعقب عقبه فليتق الله". وكأنه بوضوح كلامه يقصد صدام حسين ويذكره بعاقبته: "وقد ابتلى الناس في مختلف أدوار التاريخ بأشخاص قساة ظالمين، ظلموا، وعذبوا، ونكلوا، واستأصلوا، وأبادوا أمماً من ألناس، فكانت عاقبة هؤلاء الظالمين البوار، وتردت أسماؤهم بأردية العار والشنار".
ويفند الآراء التي تربط علاقة العذاب بالدين الإسلامي: "ولم يكن العذاب ممارساً في صدر الإسلام، فإنَّ الإسلام جاء بالسلام، والمودة، والعطف والرحمة، وشعاره أن لا إكراه في الدين".
ثم يعرج على وصية لإبي بكر الصديق موجهة إلى أمراء جيشه: "لا تخونوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، وسوف تمرون بقوم قد فرغوا أنفسهم في غالصوامع (يريد الرهبان) فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
ويورد ما كان الإمام علي بن أبي طالب يوصي به قواته: "لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في معسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإنْ شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم".
وبعد أن يستعرض فترة تسلط الأمويين على الحكم وكيف تغيرت الأمور عما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، يكتب عن زياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي والمنصور والمتوكل والقاهر وغيرهم: "إنَّ هؤلاء الظالمين، الذين ضربوا أسوأ الأمثال، في الظلم، والقسوة، والبغي، سوَّد التاريخ صفحاتهم، ولاقوا ببغيهم سوء المصير، وتحقق فيهم قول النبي صلوات الله عليه: من خاف على عقبه وعقب عقبه فليتق الله، فإنَّ هؤلاء الذين لم يتقوا الله، وبغوا، وظلموا، كانت عاقبتهم أنْ انقرض عقبهم، فلا ترى من نسلهم أحداً".
ويعدد المؤلف مجموعة كبيرة من ألوان العذاب، بوصفها أساليب تحط من كرامة الإنسان وأنواع التعذيب النفسي والجسدي والشتيمة بأصنافها وتصرفات بمقام الشتيمة كالعفطة والإشارة باليد وعرك الاذن والعبث ببدن الإنسان بعد موته (المثلة). ويصف شعوره من ألوان العذاب التي: "يقشعر البدن من تصورها، ويحتبس اللسان عند ذكرها، ويرتعش القلم عند إثباتها وتدوينها، تدل على مقدار ما في بعض الناس، من وحشية لا ينتمي إليها حيوان الغاب".
ويختتم الباحث الكبير، الذي عاش في لبنان بعد أنْ أحال نفسه الى التقاعد في العام 1964 وهو في الستين من عمره، مقدمة كتابه الموسوعي، بالقول: "وكنت أرغب في أنْ أستمر في البحث مسلسلاً، فأصل العهود الماضية، بالعهود الحاضرة، ولكن بعدي عن مكتبتي، وهي في بغداد، اضطرني الى أنْ أقتصر على ما جمعت، تاركاً لغيري من الباحثين، أنْ يصل ما قطعت، وأنْ يتم ما بدأت، وأنْ يضيف الى هذا الكتاب، ما يصل الى حاضر الايام".
فهل تأخر صدام حسين كثيراً في الاطلاع على هذه الموسوعة المهمة وقراءتها والتمعن في معانيها والتعلم منها والأخذ بالآيات الكريمة الواردة فيه، قبل أنْ يقترف أبشع الجرائم ضد شعبه وناسه وأقاربه ورفاقه وجيرانه وحتى بعض أفراد عائلته؟. أم إنه كان يروم تعلم المزيد مما ورد فيها من أساليب المستبدين في إيذاء وتعذيب الإنسان، وقد تجاوزهم جميعاً بما مارسه هو مع أجهزته القمعيَّة بحق الشعب العراقي؟
إنَّ صدام لم يقرأ الكتاب، إلا ليتعلم منه أساليبَ جديدة في إهانة الإنسان وتعذيبه وقتله.