يبدو أن العراق بصدد تقديم نسخة خاصة واستثنائية للتجربة الديمقراطية، بمعالجة جديدة، وبإطلالة مستحدثة تختلف وتتقاطع مع كل تجارب العالم على صعيد التطبيق الديمقراطي.فما دونه الحاكم المدني الأميركي للعراق، بعد احتلال أميركا العراقَ سنة 2003، في كتابه (عام قضيته في العراق)، وما كتبه المؤرخون في تاريخ العراق القريب جدا.
أنّ هذا هذا الحاكم كان ينوي -متطابقا مع بنود النظام العالمي الجديد الذي سنته بلاده منفردة قبل ثلاثة عقود من يومنا هذا- أن يؤسس ما يطلق عليه في خطاب الديمقراطيات، بـ (الديمقراطية التوافقية) على غرار تجارب ناجحة ومثالية في بلدان في أوروبا، كسويسرا، والنمسا، وهولندا، هذه البلدان التي تتميز بتنوع مكوناتي - إثني، لا يفيده سوى هذا النوع من مناهج الحكم، الذي يتجسد بإنصاف الأكثريات والأقليات على حد سواء، حتى أنّ بريمر لم يعمد إلى استنساخ تجربة بلاده أميركا ذات الحزبين المتناوبين في الحكم والمعارضة في ديمقراطية نقية ونزيهة فاخذ على عاتقه زراعة شجرة الديمقراطية الوارفة في تربة أرض الرافدين التليدة، بعد إسقاط نظام دكتاتوري شديد العتو.
ولكن سرعان ما انحرف إيقاع هذه الديمقراطية عن مساره، لتتحول البوصلة إلى توافقات متحاصصة ومتغانمة بين قوى وأحزاب العملية السياسية، فأنتجت مخرجات غير حميدة، أبرزها الفساد بشتى صنوفه، السياسي والمالي والإداري، ثم تبعه مسلسل مستمر ولا متناهي من أزمات تلاحقت وتفاقمت حتى يومنا هذا، ابتدأت بحرب أهلية محدودة لم تلبث أن همدت، لتتحول البلاد إلى مسرح لإرهاب أسود، باشرته منظمة القاعدة، لينتهي باحتلال عصابات داعش المتوحشة ثلثَ مساحة البلاد، ناشرة الموت والخراب.
فهل هو قدر الشعب العراقي إزاء خيار الديمقراطية؟ أم أنّ لديمقراطية العراق مذاقها المر وثمارها الفاسدة، قطفها الشعب العراقي طيلة زمن أسود وإشكالي دام طويلا، تمثل في تقهقر وتراجع مأساوي لبلد هو الأغنى في الإقليم، بموارده الغزيرة، وأرضه المعطاء، ونفطه الوفير الذي لم يربح منه سوى البطالة والعوز ونسب الفقر المفزعة، وأخيرا الاحتجاجات التي لم يشهدها تاريخ البلاد من
قبل.
ترى أهي أزمة الديمقراطية عموما أم هي أزمة ديمقراطيتنا؟
الذين يكتبون في مجال السياسة والتاريخ يشيرون إلى أن كلمة الديمقراطية الدستورية، هي التي تتفوق في مجال الجذب للشعوب قياسا مع تسميات أخرى، فهي، أي الديمقراطية، تحاول كل الدول التمظهر والالتصاق بها، والانتساب إليها، فهي تقع في الخانة المضادة للاستبداد والشمولية، فبعد انهيار الدول ذات الأنظمة الكلية - التوتاليتارية- في العقود الأخيرة من القرن العشرين، تصاعد رصيد الديمقراطية مقترنا مع رخاء أصاب هذه الشعوب بتبنيها الأساليب الليبرالية، الرديف الاقتصادي
للديمقراطية.
إنّ ما يضيفه تحليلنا هنا، هو أنّ المواطنة التي تفترض وجود دولة هدفها الرئيس تعزيز القوة المجتمعية، فالسؤال يبرز هكذا: إذا كان تمثيل المصالح المجتمعية واحدا من مقومات الديمقراطية، فهل حصل مثل هذا في ديمقراطية العراق؟ الإجابة هي ما لم تخضع القوى السياسية لمتطلبات القوى المجتمعية الفاعلة، تفقد صفتها التمثيلية، فتقضي على أول شرط من شروط الديمقراطية، فإذا لم يحصل مثل هذا الأمر عندئذ تنقطع الروابط بين المجتمع السياسي الذي تربطه بالمجتمع المدني وبالدولة معا.
ما يميز أغلب الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة العراقية كونها لا تتّكئ على قاعدة مجتمعية عريضة فهي محض تجمعات انتخابية بغطاء طائفي.
فالقياس الذي اعتمده بريمر نظريا كخيار للديمقراطية في العراق، لم يحقق أيّة نسبة إيجابية، بل ارتد بشكل معكوس فأنتج أعرافا وسياقات، أول آثارها ضعف الدولة، وتجمعات بتسميات طائفية وعرقية لا يحدوها سوى التغانم
والفساد.
الخلل في التمثيل النيابي البرلماني الذي اعتمد المحاصصة هو الذي أضرّ كثيرا في تجربة العراق الديمقراطية، وهو الذي أنجب كل النواقص والشرور القديمة والجديدة والتي انعكست على حياة المجتمع العراقي بقوة، ومن تمظهراتها الأخيرة والمضادة للعملية السياسية، هي حركة الاحتجاجات الأخيرة بكل ما حققت من نتائج وتحديات لقوى وأحزاب العملية السياسية، التي ظهرت متخبطة وفي أقصى حالات الخوف والفزع، وهذا ما انفضح في قضية ترشيح محمد توفيق علاوي، أخيرا، لرئاسة الوزراء، وفشل مروره في البرلمان، فقد تهاوت كلّ ادعاءات ممثلي العملية السياسية، وظهرت عارية ومكشوفة تماما أمام الرأي العام
والمتظاهرين.
المشكلة أو الأزمة السياسية في العراق اليوم هيكلية ومتفاقمة، وعليه ينبغي أن يكون التغيير هو الآخر هيكليا
مماثلا.