إشكاليّة الحكومات العراقيّة المتعاقبة

آراء 2020/03/11
...

د. عبد الواحد مشعل
 
يعيش العراق اليوم أزمته السياسية التي لم يستطع ساسته إيجاد مخرج إيجابي لها، فاليوم نعيش ولادة عسيرة لتشكيل حكومة مؤقتة، أو حكومة تمهّد لبداية عهد جديد، إلا أن البنية السياسية العراقية تبدو غير قادرة على الخروج من دائرة التراث الثقافي الذي طالما كان من العوامل التي أثّرت، بشكل وآخر، في تشكيل دولة متكاملة الوظائف والأركان، إذ تبين أن النسق الثقافي العراقي متأثرٌ بآثار الصراع بين البداوة والحضارة، في تاريخ العراق الحديث،
 كما أنّ العراق، خلال تاريخه الطويل، تعرّض إلى غزوات كثيرة أثّرت في بنائه الاجتماعي والثقافي وانعكست على شخصية الفرد العراقي، وجعلتها تتعرض إلى ألوان من السلوك الاجتماعي والنماذج المختلفة من السلطة، الأمر الذي أخذ يظهر في مواقف هذه الشخصية، في المواقف المختلفة، وفي الأزمنة المختلفة، ولا سيّما بعد مرحلة الانقطاع الحضارية، بعد سقوط بغداد على يد المغول.
 
طبيعة البناء الاجتماعي
   إنّ البناء الثقافي والمجتمعي العراقي، في الوقت الحاضر، يمرّ بمرحلة صعبة من التشكيل الوطني والهوية الوطنية بسبب عقلية المحاصصة التي تسيطر، وبأشكال مختلفة عند السياسيين، والذي طبع الصراع السياسي بصراع قبلي أو مناطقي أو طائفي، وإن ظهر الكثير منه على شكل فكر أو أيديولوجية سياسية في أي اتجاه أو حزب يحمل شعار الوطنية أو القومية أو الإنسانية أو الدينية. فلا يمكن فصل الثقافة في العراق عن المرحلة الحضارية التي مر بها المجتمع، سواء في تاريخه القديم أو الحديث، وهذا يدل على تأثر المجتمع بأنماط ثقافية كثيرة، ولا سيّما في بيئته الحضرية، ممّا أثّر في نسقه الثقافي، إذ كان العراق، وخلال التاريخ، منبع الفلسفات ومكاناً ولوداً لمدارس فقهية مميزة كان لها الأثر الكبير في تشكيل الفكر الاجتماعي العراقي ورسم ملامحه الصراعية والجدلية، ما جعل هذا المجتمع صعب المراس أو الانقياد أو القبول بالأفكار الجديدة الداخلة إلية.
 
بلورة ثقافة حديثة
إنّ بلورة ثقافة عراقية حديثة أمرٌ مرهون بقدرة المجتمع على بناء الدولة المدنية وتحقيق الرفاهية الاجتماعية وإنقاذ الإنسان المعاصر من واقعه الاجتماعي والاقتصادي الصعب، وهو لا ينفصل بأيّ شكل من الإشكال بتحقيق التنمية الفعالة القادرة على إحداث تغيير بنيوي يجعل الطرق مفتوحة أمام مستقبل أكثر قبولا للتعددية بمكان طبيعي لطبيعة أنموذج المدينة الذي دائما يقف بالضد من الشكل الأحادي الذي لا يصمد طويلا أمام لغة العصر  التي تؤمن بالتعدد الذي يتيح للعراقيين فرص التعايش السلمي وبناء أنموذج ديمقراطي قائم على الاحترام المتبادل بين ثقافاته الفرعية وجعل الإنسان قيمة عليا وتحقيق شروط المواطنة السليمة، وهذا يتوقف على تطوير برامج التعليم وتحقيق فرص عمل مناسبة وتفعيل دور القطاع الخاص، وقيام صناعة وطنية إبداعية وتحقيق شروط تنشئة الشخصية الإنجازية، وسيادة القانون لتحقيق المساواة والعدالة في المجتمع. 
 
المستقبل وتقديم أنموذج جديد 
  إنّ مستقبل الثقافة في العراق لا يمكن فصله كليا عن التراث الفكري العراقي رغم أنّ الأجيال الجديدة لها تطلعانها الجديدة المتأثرة بثورة الاتصالات في العالم إلّا أنّ هذه الأجيال ستكون لها رؤيتها الجديدة في ترجمة التراث الحضارية بطريقة عجز الآباء عن تقديمها بشكل فاعل للثقافة الإنسانية بعد استطاعة هذه الأجيال من غربلة الماضي والانطلاق إلى الأمام متجاوزة أمراض المجتمع ومخلفات المراحل الاستعمارية التي تعرض لها ولا سيّما في العصر 
الحديث.
إنّ المستقبل الذي ينتظر الأجيال الجديدة مرهون بقدرة الفكر السياسي العراقي الحديث على بلورة مفاهيم جديد في بناء الدولة قائمة على أساس الوعي بمصالح الإنسان والنظر بعين الجدية الى حاجاته المتزايدة والتي تتطلب من القائمين على الأمر النظر الى الأمور بعين أخرى غير العين التي نراها اليوم تقيّم الأوضاع على وفق تصورتها المحلية ومصالها الآنية من دون النظر إلى مصلحه الإنسان في بناء تصور مؤسساتي يأخذ على عاتقه بناء الدولة ببنيتها الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تضع في حسابها التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها عالم اليوم.
 ينبغي على المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية العمل وفق الصلاحيات المنوطة إليها لتحقيق قدر من الانفصال بين سلطانها من أجل إرساء دعائم الدولة المدنية العراقية الحديثة.
إنّ مستقبل الثقافة في العراق يتوقف على قدرة الدولة والمجتمع في تحقيق التنمية البشرية وإخراج المجتمع العراقي من واقع التأخر ونقلة الى حالة من التقدم كي تعاد الثقة الى المواطن بمجتمعه وثقافته ثانيا.
ينبغي على الجامعات ومراكز الأبحاث والهيئات العلمية المختلفة القيام بدراسات علمية لفهم واقع الثقافة العراقية لوضع إطار مشروع نهضوي يشارك فيه أبناء المجتمع، أو على أقل تقدير توفير وعي مجتمعي بأهميته من أجل نقل المجتمع إلى مرحلة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لا سيما أنّ مرتكزات ذلك متوفرة أو أكثرها على أقل تقدير إذا ما توفرت العزيمة في تحقيق 
ذلك.
ينبغي أن يرتفع صوت الحكمة والعقل لرسم خريطة حديثة تنقل المجتمع الى مرحلة من التفكير العقلاني وبناء دولة تأخذ على عاتقها معالجة مشكلات الإنسان العراقي بطريقة يقبلها العقل
، ويخرج  المجتمع من أزماته المتلاحقة وبخلاف ذلك ستستمر أزمات الحكومات بوتيرة تزيد من غضب الأجيال الجديدة أمام تصاعد مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية يوما بعد 
آخر.