حسن العاني
لم أعشق مدينة بعد بغداد، مثل عشقي للفلوجة وناسها الطيبين وجسرها القديم ونكهة كبابها، وما لا يصح الافصاح عنه لاشتعال الرأس شيباً، انها مرابع الحب الاول، وصفية الروح (ف.م) ، وانا ابن 15 سنة، طالباً في ثانويتها ، انتقلت اليها مع اسرتي عام 1959، وامضينا عاماً واحداً حصلت في اثنائه على شهادة المتوسطة.. وعدنا مجدداً الى العاصمة بعد انتهاء مدة التنسيب الوظيفي لوالدي..
كان مكان المذاكرة المفضل لي ولأقراني ، هو ملعب المدينة الترابي، وشاءت المصادفة ذات نهار ان يحضر مدرس الرياضة مع لاعبي الثانوية لكرة القدم، وذلك لاختيار التشكيلة النهائية التي ستلعب ضد منتخب ثانوية الرمادي.. كان اللاعبون الموزعون على فريقين، يرتدون الاحذية والملابس الرياضية ، وكنت ارتدي الدشداشة والنعال، وكتاب التاريخ بين يدي، وقلبي يخفق مع تنقلات (الطوبه)، ولهذا طويت صفحات التاريخ ورميتها وراء ظهري، إذْ ما أوجع شيء رأسي مثل التاريخ، ورحت اتابع بشغف ، وفي نفسي حنين لملامسة الكرة، وها هو الحظ يحالفني حيث غادرت كرة طائشة الملعب، فهرولت وراءها ، وداعبتها بقدمي ورأسي وروحي وما تختزنه ذاكرتي من فنون اللعبة التي اتقنتها في ساحات العاصمة الشعبية، ثم ركلتها الى الوراء بحركة بهلوانية اعادتها الى الملعب، وسط غضب اللاعبين وعياطهم على هذا المتطفل الزعطوط!!
على الفور استدعاني المدرس، وسألني ان كنت من طلاب الثانوية، فأجبته (نعم .. في الثالث المتوسط) وامتعض لان العرف الرياضي يقضي ان يكون اللاعبون من طلاب الخامس الثانوي، وقلة قليلة من الرابع ، وقد ادركت في وقت لاحق، ان اختيار لاعبي المنتخب يومها، لا علاقة له بمهارات اللاعب الفردية، او موهبته الكروية، او ذكائه الميداني، بل يتم الاختيار على (البنية القوية والقامة المديدة والشارب الطويل) ، وانا قصير القامة ضعيف البنية عديم الشارب، الا ان المدرس تجاهل هذه الشروط ، وطلب مني النزول الى الساحة واللعب.. ونزلت حافي القدمين، معقوف الدشداشة حول خصري، ولعبت افضل مما كان يلعب (بيليه) بخصومه، واحرزت هدفين في نصف الساعة التي لعبتها، وهكذا اصبحت رسمياً ضمن التشكيلة ، وبات الاستاذ على يقين ان الكأس من نصيب ثانويته، ما دام لديه لاعب تفوق على بيليه ضمن فريقه!!
جرت وقائع مباراة الكأس النهائية على ملعب الرمادي الترابي، ورأيت نفسي اقرب الى فسيلة نخل بين اشجار معمرة... ومع اول كرة وصلتني تقدمت بها مسرعاً، وعبرت لاعبي الخصم بمراوغات اثارت دهشة المتفرجين وتصفيقهم العالي، ولم يبق لبلوغ مرمى الخصم سوى مدافع متأخر، تقدم غاضباً هائجاً، ورمى قامته وبنيته وشاربه فوق جسدي من دون ان ينظر الى موقع الكرة.. وبعد ان (مرغلني) في التراب، ودحرجني الى خارج الملعب، نهضت بالتواء في القدم وجرح في الحاجب ونزيف في الساق، ولم يصفر الحاكم، وتم تسجيل الحادث ضد مجهول، ومن يومها، وانا في عزّ عطائي ... اعتزلت اللعب!!