في منزل الصدر!

الصفحة الاخيرة 2020/04/04
...

 جواد علي كسّار
 
في زيارة له إلى العراق شارك المفكر القومي المصري عصمت سيف الدولة (1923 ـ  1996م) بمؤتمر للمحامين العرب عُقد ببغداد. وفي أثناء ذلك أقنعه محامٍ عراقي من أسرة نجفية، زيارة النجف الأشرف واللقاء بالسيد محمد باقر الصدر، وهذا ما حصل حيث اصطحب سيف الدولة معه عدداً من المحامين إلى هذا اللقاء، حلوا ضيوفاً على الصدر في منزله.
يذكر من حضر اللقاء أن د.سيف الدولة قال للسيد الصدر حين رآه: كنت أتصورك رجلاً كبير السنّ ولديك تشريفات لإعطاء المواعيد! ثم سأل السيد وقد استرسل معه في الحديث: من أيّ جامعة تخرجتم؟ فأجابه: من جامعة الإمام علي بن أبي طالب، فاستغرب سيف الدولة، وقال: إنَّ أفكارك لا يمكن أنْ تحصل عن طريق المطالعة الشخصيَّة!
دام اللقاء ما يقرب من ساعتين، والسيد الصدر يجيب عن كلّ سؤال يصدر منهم بالدقة المعروفة عنه، والعمق المعهود فيه، إلى أنْ بلغ الكلام عن الاشتراكية ونظريَّة القوميَّة العربيَّة بحسبان عصمت سيف الدولة من أبرز رادتها، وممن بذل جهوداً واسعة في صياغة أسسها الفكرية ووضع مرتكزاتها النظرية، وقد كان هدف صاحبنا المحامي النجفي، هو إجراء مطارحة عن هذه النظرية بين الصدر وسيف الدولة، لا سيما أنَّ الصدر ناقش المرتكزات الفكرية المزعومة لهذه النظرية، مقدمة الطبعة الثانية من كتاب «اقتصادنا» وأثبت أنها عاجزة عن إيجاد نهضة في العالم العربي. وهذا ما تكرر مجدداً مع ضيوف الصدر، حين أخذ يقدّم الدليل بعد الدليل، ويسوق الحجة بعد الحجة، على الخواء الفكري لهذه النظرية، وفشلها في بناء تجربة ناجحة في جميع من رفع شعارها من البلدان العربية، كلّ ذلك وسط انبهار الحضور بمنطق هذا العالم النجفيّ.
لم يكن سيف الدولة وحده من زوّار الصدر في منزله، فقد حدث مرّة أنْ حضر مجلسه الذي يعقد بداره قبل ظهر كلّ يوم، رجل وقور سلم على السيد الصدر، فرّد عليه السلام ورحب به أحسن ترحيب، وبعد دقائق تكلم الضيف، فقال للسيّد: أعرفكم بنفسي، أنا عبد الفتاح عبد المقصود، فجدّد الصدر ترحيبه به، وأثنى على كتابه «الإمام عليّ بن أبي طالب» بما يستحقّ. راحت بشائر السرور تطفح على مُحيا عبد الفتاح عبد المقصود، الذي أدرك أنَّ الصدر قد قرأ كتابه، فسأله عن رأيه به، فامتدح الصدر الكتاب، وأشار إلى جهد المؤلف فيه، لكنه قال: ولنا عليه ملاحظات، ثمّ أخذ السيد يعرض ملاحظاته الناقدة عن الكتاب وعبد الفتاح يتفاعل معه بانبهار، ليس لقيمة الملاحظات وحدها، وإنما لحضور الذهن عند الصدر، فالسيد لم يكن يتوقع زيارة الأستاذ عبد المقصود لكي يتهيأ لمناقشة كتابه؛ أكثر من ذلك يذكر الشيخ النعماني الذي نقل الواقعة، أنه لم يرَ كتاب عبد المقصود في جملة مكتبة الصدر في بيته، ما يعني أنَّ آخر عهده به ربما كان قبل عشر سنوات من لقاء مؤلفه أو أكثر، ومع ذلك ناقش المؤلف وكأنه كان قرأ الكتاب للتو، ودوّن عليه ملاحظاته.
ينقل من حضر الواقعة أنَّ التفاعل بين الرجلين بلغ مداه، وعبد المقصود يُوافق الصدر على آرائه وملاحظاته، حتى بادر من شدّة انبهاره، للنهوض وتقدّم صوب الصدر وقبل يده تقديراً واحتراماً. وعد المؤلف أنْ يأخذ بالملاحظات النقديَّة في الطبعات اللاحقة، ثم دار الحديث بينهما، من خلال أسئلة ركز فيها عبد الفتاح على ملابسات اختلاف الموقف تاريخياً بين الإمامين الحسن والحسين، حين اختار الأول الصلح والثاني المواجهة، فردّ الصدر بما ملخصه أنَّ ما اختلف هو الأمة وليس الإمامان؛ فأمّة الحسن في ظروفها وأوضاعها كانت غير أمّة الحسين.
في بقية القصة أنَّ الصدر حثّ عبد المقصود بما له من سعة إطلاع ونزاهة علميَّة وثروة أدبيَّة ورشاقة في القلم؛ حثّه على تأليف كتاب عن فاطمة الزهراء، وهذا ما كان حيث أصدر هذا الكتاب الذي كان أمنية الصدر، عام 1986م، بعنوان: في نور محمد: فاطمة الزهراء، وإذا كانت هذه الأيام تصادف الذكرى السنوية لاستشهاد الصدر، فمن ألطاف الله أنَّ عبد الفتاح عبد المقصود لا يزال حياً وقد قاربت سنّه المئة وعشر سنوات.