جوديث بتلر.. تجاذبات الجندر والفلسفةجوديث بتلر.. تجاذبات الجندر والفلسفة

ثقافة 2018/12/17
...

 
نصير فليح
 
 
هناك اسماء عديدة نشطت في الدراسات النسوية (الفمنستية)، والفيلسوفة والمنظرة النسوية جوديث بتلر Judith Butler )1956) من ابرزها. وفي هذا المضمار تمثل بتلر شخصية فكرية مثيرة للسجال والجدال، بحكم اطروحاتها الجذرية التي تتقاطع مع الكثيرين بمن فيهم بعض الاسماء البارزة في حقل الدراسات الفمنستية.لكن عمل جوديث بتلر الفكري لا ينحصر في مجال الفمنستية، بل يمتد الى مجالات مثل الفلسفة، والفلسفة الاخلاقية، واللغة، والاونطولوجيا (مبحث او دراسة الوجود او الكينونة) فضلا عن كتاباتها السياسية التي اثارت حفيظة اسرائيل والمتعاطفين معها داخل الولايات المتحدة وخارجها، واتهام بتلر بالتهمة الجاهزة، اي "معاداة السامية".
 
لجوديث بتلر عشرات الكتب والمقالات في مواضيع مختلفة، وشغلت وما تزال مناصب اكاديمية مرموقة، ولكن عملها الرئيسي الذي ظهر في مجال الدراسات الفمنستية وهو (Gender Trouble) = متاعب الجندر) اصبح مَعلما رئيسيا في هذا المجال (الطبعة الاولى 1990، طبعة ثانية 1999، طبعة منشورات رتلج 2015) (والجندر يعني بصورة عامة حالة ان يكون الشخص رجلا او امراة، ولا سيما بشأن الاختلافات الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية اكثر مما البيولوجية).
الفكرة الاساسية التي تدافع عنها بتلر في مجال الدراسات الفمنستية، هي رفضها لمحاولة تأسيس هذه الدراسات على اساس ثوابت او تمايزات اصلية او كلية يتم الانطلاق منها في مقاربة موضوع الجندر. ذلك انها ترى أن الجندر نفسه يتشكل عبر "الأدائية" performativity دون تحديدات اولية مسبقة عن الهوية ينطلق منها او يستقر عليها. 
وهنا نستطيع ان نلاحظ اثر تفكيكية دريدا في مقاربة من هذا النوع، هذه التفكيكية التي لا ترى - كما قد يعرف القارئ الكريم - مدلولات نهائية يستقر عليها الدال، وان هناك اختلافا مرجأً différance مستمرا في احالات المعنى. لكن التفكيكية ليست الوحيدة في هذا النزوع، فمجمل الاتجاهات ما بعد البنيوية poststructuralism تميل الى مناهضة التصورات الكلانية او التاسيسية الراسخة، من قبيل السرديات الكبرى، او وجود هويات او ماهيات نهائية قارّة. ودريدا ليس التأثير الوحيد الهام في فكر بتلر، فميشيل فوكو، لا سيما في كتابه (تاريخ الجنسانية)، يمثل مصدرا هاما آخر، بل ان كتاب بتلر الرئيسي الذي ذكرناه، اي (متاعب الجندر)، يستشهد ويقتبس الكثير من فوكو من عمله هذا.
بتلر ترى ان الجندر يتشكل في الممارسة، وعبر تكرار افعال معينة، وهي اذ تنطلق من فكرة سيمون دي بوفوار الشهيرة عن الدور الاجتماعي الذي يترتب على الذكورة والانوثة (هذه الفكرة التي تقول ان المرأة او الرجل لا يولدان كذلك، بل يصبحان كذلك) فانها تحاججها وتنتقدها. فقراءة بتلر لسيمون دي بوفوار تقودها الى تصور الجندر باعتباره "عملية" تجري، وليس هوية ذات اساس متجذر في التمايز الاصلي بين الذكر/ الانثى. وهذا هو المعنى الاساسي الذي يميز "الادائية" التي تقول بها بتلر. 
و"العملية" هنا هي تكرارات معينة من انماط السلوك، من ايماءات الجسد وحركاته والافعال والتشريعات المتنوعة ذات الصلة. 
في (متاعب الجندر) تبتعد بتلر عن سيمون دي بوفوار والظاهراتية، وتؤسس مقاربتها على أسس نيتشوية من قبيل ان "لا كينونة هناك في ما وراء الفعل...فالواقعة هي كل شيء". وهذا يعني بمصطلحات الجندر ان ليس هناك هوية جندرية في ما وراء تعبيرات الجندر، وان الهوية تتأسس ادائيا تماما عبر التعابير التي يقال انها نتيجة لها. 
واطروحات بتلر هذه جعلت منها موضع سجال شديد بما في ذلك مع شخصيات بحثية هامة في الدراسات الفمنستية، من امثال لوس إريغارَيLuce Irigaray  و مونيك وِتِغ Monique Wittig. فاطروحات بتلر تناهض التصورات الجوهرانية عن "الهوية" بما في ذلك بعض المحاولات الفمنستية في عصرنا الحاضر المؤسسة على منطلق حضارة مفترضة طوبائية لعصر امومي في الماضي البعيد. فهذا في نظرها ايضا نوع من النوستالجيا (اي الحنين الى الماضي) لا صله له بصراعات المرأة في عصرنا الحالي.
افكار بتلر هذه تمد جذورها الفلسفية في مجالات اللغة، والاونطولوجيا، والفلسفة الاخلاقية، وهو ما تتناوله في اعمالها، بما في ذلك تلك المتعلقة بتوظيفاتها للظاهراتية، والتفكيكية، ونظرية جون اوستن عن افعال الكلام  theory Speech acts.
اما بخصوص اتهامها بمعاداة السامية في كتاباتها السياسية اللاحقة، فقد اثارت جدلا لا يقل عن الاولى ان لم يكن اكثر، بحكم ادانتها التي لا مواربة فيها لسياسات الحكومات الاسرائيلية تجاه 
الفلسطينيين. 
وهذا كما هو معروف اتجاه لا يحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة بوجه خاص، بحكم النفوذ اليهودي والاسرائيلي والمساعدة الرسمية الاميركية المستمرة لاسرائيل منذ تأسيسها. ولكنها قاومت هذه الضغوط، وتصر على انها تدافع عن القيم اليهودية التقليدية المتعارفة عن العدالة الاجتماعية ضد تشويهها بواسطة الصهيونية. وهذا النقد والموقف يمتد في عدة اعمال لها من قبيل Parting of the Ways: Jewishness and the Critique of Zionism ( = انفصال الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية) الى واحد من آخر كتبها هو On Anti-Semitism: Solidarity and the Struggle for Justice ( = عن معاداة السامية: التضامن والصراع من اجل العدالة)
(2017).