جواد علي كسّار
ما دمنا في أجواء ذكرى استشهاد السيد محمد باقر الصدر، بودّي أنْ أعرض إلى مسألةٍ إشكالية تضغط على عقلي كثيراً، حتى تحوّلت إلى هاجس يملأ نفسي، في كلّ مرّة يتحرّك فيها السؤال، عن الواقع المتخلّف الذي نعيشه في العراق خاصة، وفي العالم العربي والإسلامي إلى حدّ ما.
تبدأ الإشكالية بمقدّمة يقينية بسيطة، مفادها أن شوط التقدّم في الغرب الذي اقترن هناك بما بات يُطلق عليه بـ«عصر النهضة»؛ هذا الشوط بدأ من انقلاب في التفكير، تحديداً في منهج التفكير وخاصّة الفلسفي منه، وتحوّله من الاستنباط والقياس بمفهومه الأرسطي، إلى الاستقراء والملاحظة والتجريب بمفهومه الحديث. من النتائج المباشرة التي ترتبت على هذه الاستدارة المنهجية من الاستنباط إلى الاستقراء، أن تحوّلت الاهتمامات الفلسفية من اللاهوت وقضايا الإيمان والكتاب المقدّس، إلى الطبيعة وحياة الناس، وقضايا التقدّم، بحيث تقلص الجانب الأول بعد أن كان يهيمن على المشهد كله، إلى هامش ضئيل انحسر في اهتمامات كنسية وأخرى محدودة في الأروقة الجامعية، وفي المقابل انطلق الجهد العقلي كبيراً وجباراً، في الطبيعة والعلوم وما يمسّ حياة الناس، فأثمر هذا التقدّم الهائل عبر أشواط ومراحل امتدّت من عصر النهضة إلى عصر الأنوار، إلى عقلانية القرن التاسع عشر، وليبرالية القرن العشرين، والليبرالية الجديدة مطالع الألفية الثالثة.
لا ريب أنَّ لهذه النقلة النوعية الجبّارة في حياة الغرب وفي العالم برمته تبعاً له؛ روّادها وأسماءها البارزة، منهم على سبيل المثال الإنكليزي فرانسيس بيكون؛ هذا الرجل الذي شاء له القدر أنْ يكون يوم وفاته في التاسع من نيسان عام 1629م، وأن تكون وفاته بذات الرئة (يذكرنا التاريخ الأول بيوم استشهاد الصدر، وسبب الوفاة بما نحن فيه من فيروس كورونا!).
تركزت جهود بيكون الفلسفية بالانقلاب على المنطق الأرسطي، ووضعه من حيث الجدوى والحقل التداولي، في دائرة الشك، لصالح الفلسفة القائمة على الاستقراء، ومنهج الملاحظة والتجريب، ما أدّى إلى دخول أوربا في عصر النهضة؛ بدلالته المباشرة على الإصلاح الديني والثورة الصناعية، والنموّ المتسع في الاكتشافات العلمية وتطوّر الآلة، في مقابل ضمور العناية بأسئلة المعرفة والوجود والإلوهة، وهي مخاضات العقل النظري، واهتمامات الفلسفة بخطها الأرسطي.
لقد حصل ذلك بتفجير مكنونات العقل، بفلسفة عملية تلامس العلم وتسهم في رفاه الإنسان وتقدّمه، ضمن الصيغة التي وضعها بيكون للاستقراء، بمنهج استخراج القواعد العامة والقوانين، من الواقع استناداً إلى الملاحظة والتجربة. وقد كان لذلك نتائج في طليعتها تقنين لقواعد منهج الاستقراء، والتعامل مع المعرفة الاستقرائية كقوّة، واستثمار هذه القوّة في الطبيعة والعلم والصناعة (ومن بعدها في الاستعمار!) ومراكمة المعرفة العلمية، والتعاطي مع المنهج ليس بصفته هدفاً، بل وسيلة للمعرفة العلمية الطبيعية السليمة، وباختصار مكثّف، صارت: «الغاية من الفلسفة هي المعرفة، والغاية من المعرفة هي السيادة على الطبيعة».
السؤال المثير الذي يلحّ على الأذهان: لماذا غابت كلّ هذه المعطيات والنتائج، عن أطروحة الصدر في الأسس المنطقية، وبقيت الثمرة حبيسة في نطاق المعطى العقيدي وحده؟ وما دامت الفكرة واحدة، فلماذا اختلفت نتائجها بين الشرق والغرب، بين بيكون والصدر؟ هل يعود ذلك إلى مفهوم العلم واختلافه بين المجتمعات؟ أم إلى الشرط التأريخي وتفاوته بين عصر النهضة الأوروبي والواقع الذي نعيش في بلادنا؟ أم أن العلة تكمن في الإنسان، كما تذهب إلى ذلك نظرية التفسير العنصري للتقدّم والتخلف؟
أياً ما كان التفسير؛ في جواب هذه الأسئلة أم بغيرها، أعتقد أن المسألة بحاجة إلى مكثات طويلة، بل إلى مراجعة لمناهج التفكير وآلية عمل أجهزتنا العقلية.