تصوّر المجموعة الشعرية "حرف من ماء". قصيدة حب طويلة، الصادرة عن منشورات ضفاف، بيروت، 2017. للشاعر أديب كمال الدين، العلاقة بين الحرف والنقطة، وبطريقة أوضح العلاقة بين الإنسان وظلّه، بعد أن تحوّل هذا الإنسان إلى شبح في وطن منكوب، ومن ثمّ اختفى ظله تماماً.
إنَّ إجمالية أو اختزال نصوص المجموعة إلى نمط صراعي واحد: الحرف- النقطة، الشبح وظله، أو رسالة دلالية واحدة يفسد تعاقب التطور في النصوص التي تطمح إلى أن تكون "قصيدة حب طويلة" من خلال ضغط طبقات المعنى وتحجيم التعدد في المستويات القرائية، ويظهر هذان الدافعان المتلازمان، الضغط والتحجيم، في تتبع النهج السردي الذي اعتمده الشاعر من خلال الجمل الفعلية والحركات الزمنية والفاعل المشغول بالدفاع عن نفسه وعن حكاياته.
فليس هناك "أنا الشاعر" وهي تتمحور في مركز العالم، ولا وجود للأفق الحلمي الذي يتموضع فيه الشاعر وشعريته، هناك فقط خط التوتر الخاص بالمفارقة الحكائية عن طريق دمج حركتين متميزتين تسيران بتوازٍ مستمر: حركة الشبح- الحرف وحركة النقطة- الظل، تلك البقعة السوداء التي يسحبها الشبح وراءه أينما حل وارتحل. ولننظر إلى كيفية اشتغال النصوص وفق هذه الآلية:
1 - حركة الشبح- الحرف: ((البارحة/ طرقتُ بابَ الماضي/ فخرجَ لي رجلٌ يشبهني تماماً/ ويرتدي ملابسَ تشبهُ ملابسي تماماً/ وقالَ لي بلباقةٍ عالية: العنوانُ خطأ/ وحينما استدار/ وجدتُ اسمي وعنواني ورقم هاتفي/ مكتوباً على ظهره/ إنّما بحروفٍ عصيّة على القراءة/ أتراها حروف الماضي؟)). (ص21).
2 - حركة الظل- النقطة: ((اشتركتُ مُجبراً في سبعين حرباً/ وخسرتُها بنجاحٍ أسطوريّ/ الواحدة بعد الأخرى/ لكنّي انتصرتُ في حربٍ واحدة/ هي حرب النقطة التي توّجتني ملكاً على أبجديةِ الوهم)). (ص39).
تقدم القصائد التي وصل عددها الى الأربعين قصيدة بياناً لقراءة جديدة فعالة، قراءة تقوم بعملية إعادة صياغة علاقة الإنسان بمصيره الفاجع في واقع لم يعد له، وصياغة المعنى بحرية لا تقل عن حرية اللعب الشعري، قراءة يمكنها أن تحقق وجودها وتكرسه في سحر الدلالات المتوالدة، لكنها تركز المعنى في منظور واحد، منظور نتابع من خلاله الشبح وهو يتحرك هنا وهناك مذكراً بكائنيته الطيفية التي لا تعني شيئاً للآخرين بقدر ما تعني الشيء الكثير له، فهو الحرف اللغوي الصعب (الرقم الصعب في معادلة توازن القوى) الذي سيجر نقطته حيثما يشاء، وبذلك يستطيع أن يتلاعب بالكلمات والعبارات والجمل ومصير كل تلك الخطب الحماسية التي تتلاعب بعقول شعوب بأكملها. بيد أن هذا المستوى من القراءة لا يعني إيقاف سلسلة التداعيات الدلالية وهي تتوالى مع تقدم القراءة، ولا إيقاف تركيب النص الشعري وهو يستعين بوحدات سردية قابلة للتمدد والازدهار، بل يعني استخدام هذه التقانات ليس على أساس صفاتها المحدودة، بل على أساس صفة التعدد فيها وهي حالة تخص "إمكان الكينونة" وليست حالة تحديد الوظيفة الشعرية أو التجني الذي يرافق الهجنة السردية.
وإذا كان المعنى النهائي يبهرنا فسبب ذلك ان النصوص رفضت البساطة والتسلسل السببي وتمسكت بالتعدد الدلالي، فكل شيء يسير على نحو مطرد وباتجاهات عدة، لكنه لا يملك قدرة تحقيق الوحدة النهائية أو البنية العليا التي تحكم المجموعة الشعرية بكليتها، فهناك دائماً المعنى الذاتي والمعنى الموضوعي وهما يتصارعان على سطوع النصوص وقيعانها.
وهناك الحذوفات وقد مورست عليها رقابة مشددة من الشاعر. وهناك ظلال المعاني التي تحوّلت إلى سراب مكتظ بالشفرات المختلفة، لكننا كلما تقدمنا نحوه يهرب إلى الأبعد. وربما نستطيع أن نشتق ظل المعنى عن طريق إيجاد علاقة متبادلة بين معنى مدلول جديد وشكل ناتج من تفريغ دلالة سابقة، وهذا ما فعله أديب كمال الدين، ولنأخذ أمثلة على جميع النقاط التي ذكرناها حول إمكانية توليد المعنى:
- المعنى الموضوعي: ((سأعلّمُ حرفي أن يرقص/ على إيقاعِ حروفِ شعوبٍ انقرضتْ/ وبقيتْ صورها معلّقةً في الكهوف)). (ص26).
- المعنى الذاتي: ((في القاعةِ كنتُ لوحدي أقرأ شعري/ إذ حضرَ رجلٌ يشبهني وجلس في الصفِ الأوّل/ وأخذَ يبدي حركاتِ الإعجاب بشعري/ قلتُ له: مَن أنت؟ قال: أنا ظلّك/ قلتُ له: لا ظلَّ لي فأنا شبحٌ، بل أنا شبحٌ ميّت/ هل سمعتَ بظلٍّ لشبحٍ ميّت)). (ص66).
- ظلال المعاني: ((الناس الذين التقيتهم صدفةً على شاطئ البحر كانوا يجيدون الابتسام/ وحينَ سألتهم إنَّ كان بإمكاني أن أجلس معهم ضحكوا وقالوا: نحن أشباح أيّها الغريب، كيف رأيتنا؟)). (ص79).
- الحذوفات: ((اختفت المرآةُ وامرأةُ المرآةِ منذ نصف قرن/ لكنّ الشبح الذي كان يتلصص من خلف النافذة/ لم يزل في مكانه واقفاً)). (ص91).
على هذا النهج سارت القصائد، بتبادل أدوار مدهشة، ومحاورات متقابلة تبحث عن إجابة غائبة، لكن المرارة ظلت تتصاعد داخل الشاعر، فهو يصبو للأفضل والأكثر دقة والأعلى وضوحاً. إنه يوزع الإيماءات الحائرة في كل مكان، ويؤكد على موقعيته في فعل الخلق، لكنه يصبو إلى إعادة الخلق، وهذه العملية تحتاج إلى نبش الأرشيف السري الكامن في غيابات النصوص. فالنبش يعني إيجاد المخبوء والقبض على بعض الأسرار المتوارية، وهذا يعني تسمية المسكوت عنه صراحة، ولكن المسكوت عنه لا يظهر في تسمية واحدة وعنوان شائع، إنه يتملص من وراء أسماء أخرى وعناوين مغايرة يحفز بعضها بعضاً، يقترب بعضها من البعض الآخر، وفي أوقات أخرى يبتعد بعضها عن البعض الآخر، ويتطلب القبض عليها جهداً إنسكلوبيدياً (موسوعياً) يستغرق العمر كله.
وهكذا يسير العمل النصوصي، فهو تنمية مستمرة للقدرات الإبداعية ومشروع كناية ثقافية لا يعرف الكلل، الشاعر لا يكرر نفسه لكي يبقى متجدداً وحيوياً ومؤثراً: ((أنا لا أكرر نفسي كل يوم/ حتى لا أموت!)). (ص70). ((كانتْ كتابه العجيب الذي امتلأ بحروفِ الوهم/ ووهمِ النقاط)). (ص129).
إذن عملية نبش المسكوت عنه تحتاج إلى وقفة بوح ذاتية أولاً، اعتراف الذات الشاعرة أمام نفسها، فالاعتراف بمعناه العام يعني الاخضاع، وكلما كان الاعتراف صادقاً، اشتدت قوة الإخضاع. وها هو أديب كمال الدين، يعترف بكامل قواه العقلية، غير متردد، ولا متلفت أو ذعور، فسلطة الاعتراف هي التي تمنحه القدرة على المناورة من جديد، وبذلك حقق الشاعر أديب كمال الدين قدرة إبداعية لافتة، إذ بقي الحرف في كل شعره السرّ الكامن وراء جمله الشعرية وكنت أظن أنه سينفد لديه بعد ديوان واحد أو اثنين، فإذا به أوقف كل شعره على الحرف وأسراره وتلك لعمري قدرة إبداعية لا حدود لها تبهر المتلقي في استكشافات الحروف العربية
شعرياً.