متى نبدأ؟!

الصفحة الاخيرة 2020/04/16
...

 جواد علي كسّار
 
ما زالت صورة تلك الواقعة حاضرة لم تبرح ذهني رغم مرور نصف قرن عليها، وقد حصل ذلك في المرحلة الابتدائية، تحديداً في الصف الخامس أو السادس، حين تقرّر أن نزور معمل تعليب كربلاء، كجزء من النشاط المدرسي وقتذاك، ارتبطت الجولة في المعمل بمشاهدة عمليات إنتاجية مبدعة بالنسبة لنا، منها صناعة المعجون، ومتابعة إنتاجه من مرحلة غسل الطماطة الطازجة، ثمّ تقطيعها وخلطها، وتحولها إلى صهاريج حرارية، إلى أن تأخذ طريقها إلى العلب، التي تمر على شريط آلي يكبس العلبة، ويدفع بها إلى صناديق معدّة، كلّ ذلك بطريقة آلية، وبمواد خام عراقية لا أثر فيها للاستيراد.
إلى جوار هذه الصورة التي تعود إلى عام 1969 أو 1970م، دفعتني أجواء الحجر المنزلي والاستعداد لمستلزمات الحظر، للمقارنة مع صور أُخر، اقسم بالله العزيز أنها أثارت عندي (وبالتأكيد عند كثيرين غيري) أوجاعاً في القلب، وقلقاً عظيماً على مستقبل حياتنا في هذا البلد، فعندما وقفت داخل الأسواق أختار ما يلزم بيتنا من معجون الطماطة، وجدت نفسي بين المعجون الإيراني والتركي والمصري (وربما كانت هناك مناشئ أُخر لم انتبه إليها) وعندما تحولت إلى الحليب السائل كانت الخيارات بين الحليب الإيراني والسعودي و الكويتي، ما دعاني إلى أن أحدّث ابنتي عن حياتنا قبل أربعة عقود، مع الحليب العراقي المعقم وإلى جواره حليب الفواكه، بصناعته المحلية الباهرة وطعمه اللذيذ وسعره الرخيص جداً.
بالانتقال إلى الرز تكرّرت المأساة نفسها، وهكذا بالنسبة إلى كثرة غالبة من السلع، والغزو السلعي للسوق العراقية وتحويل البلد إلى منخفض تنهمر فيه بضاعة الآخرين الرديئة في أغلبها، ليس جديداً لكن ثمة لحظات صادمة تتكثّف فيها المرارة، منها اضطراري كما الملايين غيري، للتسوق الواسع نسبياً وخزن بعض السلع في البيت، وهو ما جعل هذه المشاهد تكتسب طابعاً عينياً مباشراً، وتتجدد أمامي بتبعاتها الكارثية.
ليس من الصحيح أن يدفع أحدهم، بأن هذه سلع بسيطة، فالنهضة تبدأ من هذه الحلقات؛ تبدأ من إنتاج ما نحتاج إليه من مقومات الحياة اليومية محلياً، وقطع ما يقابلها من مستوردات، النهضة تبدأ من المبادرة الفورية لتحقيق الاكتفاء الذاتي بالخبز قوام الحياة، وتشجيع زراعة الحنطة في المحافظات التي تتوفّر فيها شروط هذه الزراعة ومعها الخبز، ثمّ توفير اللحوم بأنواعها كافة الحمراء والأسماك والدجاج والطيور، وتوفير الخضار والفواكه، وربما كان إنتاج مدينة واحدة مثل كربلاء أو ديالى كافياً لسدّ حاجة السوق المحلية، وكذلك تحقيق مقومات الاكتفاء بالألبان والاجبان والحليب والمربيات والمعلبات والعصائر والحلويات، وقطع دابر التبعية للخارج.
لمن لا يعلم؛ خمسون مليار كمعدّل هي قيمة المستوردات من هذه السلع، ومعها الكهربائيات والالكترونيات وبضائع أُخر، ممكن أن نوفر منها عشرة مليارات كحدّ أدنى خلال سنة واحدة، إذا بادرنا للعمل الجاد واستثمار طاقات الشباب في العمل، وعقول التجار والصناعيين في المشاريع الصغيرة.
تجربة البلدان التي حققت نجاحات على طريق الاكتفاء الذاتي، بدأت بمثل هذه الخطوات الصغيرة، ثمّ تقدّمت صوب خطوات أكبر، ومشاريع أضخم، تكاملت تدريجياً في بناء نهضتها.
أخيرا، من يريد استقلال البلد على الحقيقة، فليبدأ بالاقتصاد؛ ومن يريد الانسجام الاجتماعي، فليبدأ بالاقتصاد؛ ومن يريد أن يواجه التأثير الأميركي أو الصهيوني في البلاد، فليبدأ بالاقتصاد؛ ومن يريد أن يٌقلّص تدخلات الآخرين ويقطع أيادي الغرباء وتدخلاتهم العنجهية عن البلد فليبدأ بالاقتصاد؛ ومن يحرص على ثروات البلد من الهدر والنهب والاحتيال فليبدأ بالاقتصاد؛ ومن يريد أن يكون له موقع مؤثّر في عالم ما بعد كورونا، فليبدأ بالاقتصاد!