أحداث عراقيَّة في دائرة الفكر الأوروبي

آراء 2020/04/28
...

رزاق عداي
 منذ اندلاع حروب الخليج، التي كان العراق الطرف الاساس فيها، كلها خضعت الى نشاط تأويلي، سياسي، ليس خبريا واعلاميا طارئا، فحسب، انما كموضوعة فاعلة في عمق الاستراتيجية، وصارت مادة للفلسفة السياسية، وعينة يشتغل عليها بمقاربات وراء كلية، اريد لها كأنموذج جزئي ليفيد في ممارسة قراءة الحدث، للارتفاع من الجزئي الحدث، الى الاطار النظري الكلي، كخطاب فلسفي.
خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات القرن الماضي كانت الموضوعة المهيمنة على الفضاء الفلسفي - الفكري الاوربي والعالمي، هي المقابلة مابين فكر الحداثة، والما بعد حداثة -
وفي غمرة الاستعدادات للحرب المصاحبة للاجتياح العراقي للكويت سنة 1990، يتقدم الفيلسوف الفرنسي -جان بودريارد-ليتحف قراء جريدة (الغارديان) بمقالة يعلن فيها ان الحرب لن تقع، اذ يعتقد ان الصراع بمثابة حدث ((ما فوق واقعي))  افرزته اوهام وسائل الاعلام والتغطية التلفزيونية المركزة، وهذا ما يقوده الى التشكيك بصدقية معايير اساسية في الفكر والنقد كالحقيقة  والواقع، واعتبرها سيلا جارفا من الصور الزائفة التي تقف وراءها حملات التضليل الاعلامية بشتى انواعها، ومرجع اعتقاده هو ما فعلت سياسة الردع في السنوات التي سبقت ذلك الحدث بحيث اصبحت الحرب مستحيلة.
ففي رأيه ان الحرب لن تحدث، والبديل عنها هو الحديث الاعلامي، اذ ضاع الحد الفاصل بين الواقع الحقيقي للحرب، وحرب الكلمات الاعلامية، فصار الافتراضي، بما تفرزه وسائل المعلومات تجعلنا نتخلى عن كل حديث عن الفرق بين الحروب الوهمية  والحروب الحقيقية.
ولترسيخ مفاهيمه يدعي بودريارد، بان فكرة شاعت بين المفكرين الاجتماعيين والمفكرين الاطلاقيين، بان الحقيقة تدرك بواسطة جهد التفكير النقدي الذي يفرز مابين الحقيقة والوهم  او الزيف الايديولوجي، وظل هذا الاعتقاد ساريا منذ احقاب معرفية قديمة حتى ترسّخ عند الفيلسوفين  كانت وماركس، وبالرغم من الانزياحيات المتعددة التي تعرض لها الفكر الغربي، ويرى بودريارد استنادا الى افكار ما بعد الحداثة، ان هذه المعتقدات  اصبحت بالية، طالما ان الناس فقدت حس الاختلاف بين الزائف والحقيقي، فالتورط ينجم عن تورط المتفرج المقولب الذي يطغى بدءا  من العاب الحرب الخيالية الى التغطية المركزة لحدث ينسب الى عالم حقيقي، فكانت حرب الخليج في فكر ما بعد الحداثة تنخرط في هذا التنظير، ولكن تحليل ((بودريارد)) كان يتهافت امام صور حقيقية، عندما  يشاهد، الاف من المدنيين لا تحصى من العراقيين المدنيين ضحية القصف الجوي الضاري الذي لم يسبقه مثيل، كانت حرب الخليج تلك كما اطلق عليها الغرب انذاك لم تكن لتشكل محور الاهتمام السياسي، فلقد انهمكت النخب  الفكرية الاوروبية بشتى الوانها وتوجهاتها، كلها ادلت بدلوها، ازاء هذا الحدث، فبالضد من من هذا كانت هناك اصوات قوية في معسكر نظرية الحداثة، اذ ان شيئا تجلى بوضوح مؤلم خلال الاشهر الاولى لحرب الخليج هو فشل عدد من المثقفين باتخاذ موقف مبدئي تجاه المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين العراقيين  على يد تحالف ((العالم الحر)) بقيادة اميركا والذي تضمن سعيها الى الفوز بمنافع  ستراتيجية، الأنموذج المضاد الاكثر بروزا  لتيار الحداثة هو نعوم جومسكي الفيلسوف واللغوي المهم  والخصم العنيد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، لقد وقف هذا المفكر خارج رموز مابعد الحداثة، الذي صوره بانه يدعم مصالح  نزعة الهيمنة، تحت غطاء (الاجماع الشعبي)، المنجز بالوسائل المعتادة لتحكم وسائل الاعلام، ادارة الراي العام، والدعاية العسكرية والحكومية.
 
صفحة ثانية
وقع شرخ كبير في دائرة الفكر الاوروبي ازاء صدمة ايلول 2001، وتقدم خطاب الارهاب ليكون في المقدمة من الاهتمام، اذ اهتزت المفاهيم مثلما تدمر برجا نيويورك بصورة مرعبة، فهول الصدمة انتقل فورا الى ساحة الفلسفة الاوروبية بحجم يوازي كرات النار الهائلة التي اندلعت في البرجين، فكان على اميركا ان تسارع الى احداث نوع من التوازن في المجتمع الاميركي الذي تعرض اغلبه الى تصدّع معنوي غير مسبوق. كان اغلبها علاجات عسكرية كبرى جرى الاعداد لها في
 البنتاغون.
افغانستان وجهت لها التهمة مباشرة لتوفر القرائن والادلة، اما العراق فهو الذي يحتاج الى تأويل او خطاب يقابل مفهوم الارهاب كمهيمنة باذخة، تمكن من مراجعة الستراتيجيات، في مواجهة هذه الاخطار المدمّرة يقترح كل من هابرمازو دريدا الى رد يشمل الكرة الارضية ويتضمن الانتقال من القانون الدولي الكلاسيكي، جاء به القرن التاسع عشر، والقائم على أنموذج  الدولة الامة، الى نظام عالمي جديد تصبح فيه المؤسسات المتعددة الاطراف والتحالفات  القارية هي التفاعلات السياسية الرئيسة.
كان الغزو العسكري الاميركي للعراق في 2003، قد شكل جدلا كبيرا في دائرة الفلسفة الاوروبية ضمن تباينات وتجاذبات عديدة تخص شرعيته او عدم شرعيته، وكان العراق حاضرا بقوة في حيز الفكر الاوروبي منذ تلك اللحظة، وحتى زمننا هذا الذي يسمى زمن الارهاب.