كلمة الله

الصفحة الاخيرة 2018/12/24
...

 جواد علي كسّار
 
هو آية، وأمّه آية، وولادته آية، ونشأته فيض متواصل من الآيات والمعجزات والكرامات. يحدّثنا سبحانه عنه وعن أمّه: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾.أمّه المصطفاة ربانياً مرتين، الاصطفاءُ بعد الاصطفاء: ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ﴾؛ هذه الأمّ العظيمة عاشت حياتها فيض عطاء وكرم إلهيين لا ينقطعان: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ فازدلف إليها قومها يتخاصمون أيهم يحظى بكفالة هذه الفتاة المباركة: ﴿وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾. لكن هذه الفتاة المباركة الطهور، ما لبثت أن عاشت محنة عظيمة مع قومها، حين شاء الله لها أن تكون محضناً لكلمته الشمّاء ولرسوله الوجيه: ﴿يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾. تجسّدت أمام العذراء الطاهرة أفواه التهمة التي سرعان ما ستنال منها، حين وضعت الوليد المنتظر مباشرة، فقالت من فورها: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾؟ كان المولود المرتقب قدراً لا مفرّ منه، فلما أحست أمّه الممتحنة بالوضع، انتبذت قومها، وأحاطها الوجع من كلّ جانب؛ وجع المخاض، ووجع كلمات الناس وقسوتهم النابية، حتى قالت ﴿يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾ فسلّاها وليدها الجديد وربط على نفسها لتواجه قومها: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا
ً فَرِيًّا﴾! لنتخيّل اللحظة التي غلب فيها كلام الناس وبهتهم، بهجة الأم وفرحتها، واغتال سرورها بمولودها الذي تحمله؛ ثمّ لنتخيّل المشهد وهي تُشير إليه، فيأخذهم الغضب والاستياء والحنق؛ ﴿قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾؟! فما كان منه إلا أن قال في جوابهم: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي 
جَبَّاراً شَقِيًّا﴾. 
إنه المثلُ طبق المثل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ﴾. هو كلمة الله في الوجود وروح منه سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾. 
ثمّ انطلق في الناس، فجعل يخبرهم بما يأكلون وما يدّخرون، فأقام بين أظهرهم يُحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويعلمهم التوراة والإنجيل، وينشر حكمته على الحواريين، ما تنتفع به المليارات من البشر في الحاضر وعلى مرّ التأريخ! (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ صدق العلي العظيم.