الرسم بعين المخيلة

ثقافة 2018/12/25
...

 د.جواد الزيدي
في فعاليته التدشينية الأولى قدم معهد وملتقى عناوين معرضا تشكيليا لثمانية فنانين بالمسمى ذاته "عناوين" وقد تحقق اتساق المعنى من خلال رؤية العرض الجماعي أو رؤية كل منهم على انفراد .فلوحاتهم المشاركة هي عناوين لموضوعات تؤطر تطلعاتهم البصرية ، بوصفها أقنعة لمتون تمتد الى أعماق النوع الفني (الرسم) والبنى المجاورة التي تتشكل عبر النظر الى زاوية الواقع المعيش أو الحلم ليتم رصده بعين المخيلة التي تخترق حدود المباشر وصولا الى جوهر الأشياء . وعلى الرغم من اسلوبية كل منهم ، الا أن هذا المعرض هو تكريس لطبيعة الاشتغالات والتوصلات الجمالية ، فضلا عن الاضافات النوعية والاعتناء بالشكل المظهري من خلال التقانات المستخدمة أو الأناقة التي يفرضها العمل الفني حتى وأن ألتحمت مع موجودات الواقع الخارجي المحيطة بنا .
    فستار درويش ، محمد القاسم ، يسرى العبادي أظهروا نزوعا نحو الهيكل الانثوي كل بطريقته الخاصة في منهج الاشتغال والتشييد والعمل على أنسنة الموجودات المحيطة ، حيث هرع (درويش) الى استحضار قيم الطفولة والبراءة المرتسمة على وجوه اشكاله الانثوية وهي توزع المرح داخل مساحة اللوحة أو الوجود الجديد الذي تتحرك فيه الأشكال ، فضلا عن مكملات الطقس الذي استحضره في لوحاته المعروضة مثل ظفائر الفتيات التي تحولت الى طيور محلقة عاليا وطائرات ورقية تسبح في الفضاء . في حين عالجت (العبادي) نسائها بشكل آخر عندما حولتها الى اشجار نخيل تغرس جذورها في عمق اللوحة وتلتقي في جزئها العلوي من خلال شعرها الذي يتماثل مع سعفات النخيل بهذه الاستطالة والتمثل بنسق التجسيد الاسطوري ، لتخلق اسطورة معاصرة في ضوء التداخل أو المبالغة في الصياغة الشيئية . أما القاسم في هذه المشاركة يعلن بقصدية عن تكريس اسلوبه الذي عمل عليه منذ سنوات لتتضح الرؤية من خلال تمظهر الأشكال وبيان ملامحها وخصائصها ، فهو يعمل على منظومة الأسى المتأتية من الأحزان المتعمقة في البنية الاجتماعية العراقية التي تختصرها أحزان النساء ، تلك التي تحولت عنده الى أشباح تتداخل فيها الوجوه والأقنعة ، ولكنها هنا تأخذ ملامح عراقية تمتد الى أعماق التأريخ، فتنتج خطابا جماليا في ضوء العلاقات البانية للشكل واللون التي تنتمي الى الفضاء المشترك غير القصدي في أعمال ( درويش ، العبادي ، القاسم) بما ينسجم مع المحرك البيئي الخارجي وتمثل هموم الناس وتصوير الوقائع وتفسيرها عبر رؤية جمالية تستند الى العالم الموضوعي ، ولكنها تتشيد برؤية ذاتية خالصة تجترحها الذات الخلاقة في جميع تجاربهم.
   وتتحدد صياغات (تحسين الزيدي ، وضاح مهدي) في التعامل مع الجسد بوصفه طريقة لاتصالهما في العالم كونه الظاهرة الأقرب الى التعبير ، فالزيدي يختصر مآسي العالم بصورة شفافة للجسد من خلال رصد دواخله وتخليصه من الرواسب التي تعتريه في الخارج المادي ، بمعنى البحث عن قوانين الداخل التي تؤسس الى السطحي والخارجي في الظاهرة الانسانية . في حين يلجأ ( مهدي) الى الاستعارة والتورية الجسدية في ضوء التعامل التقني معها وصولا الى شفافية الجسد ذاتها التي تؤدي الى ادراك العالم خارجيا من خلال ادراك الجسد وفهمه بالدرجة الاولى .
    وعلى الرغم من نزوع (أسعد الصغير ، صباح حمد ، محمد مسير) الى التجريد ، الا ان اشتغالات كل منهم تتسم بصفة الاختلاف في جوهر التصورات ، فهي تكريس للاسلوبية أو هو تطوير لمنهج التفكير الناقد الذي يدفع بالشكل الى منطقة الابداع الابتكاري . فصباح حمد ينحو منحى تجريديا خالصا من خلال منطق نقاء العالم الذي يكمن في تجريد صورته التي يشبعها في اللامشخصن وان التعامل مع السطح التصويري على أساس تعارض اللون الواحد نفسه يأتي بنتائج ترتقي الى مستويات التأويل العليا ، كونها الأكثر تعبيرا عن مفهومات واقعية تفقد شرعية التواصل مع الطبيعة بشكل مباشر ، ولكنها تنصهر معها في اللحظة النهائية . بينما يرسم (مسير) ارتدادات الإصول الواقعية ، فالهياكل الانسانية والبنائية المتخيلة والشمس التي تتحول الى دائرة برتقالية تعني ان الخيال أنتج صورته التي يراها ويرسم صورة الواقع عبر ذاته الخلاقة ونعيش واقعيتها من خلال منطق التأويل الرمزي للأشياء ، فالأزرق الممثل للسماء والبحر ودائرة الشمس وخطى الأشخاص تتوافر في لوحته ليس باشتراطها الفعلي ، بل من خلال اشتراطات وجودها الجديد (اللوحة) . وانتقى (أسعد الصغير) صيغة للعرض المشاكس والمغاير كجزء من التمرد على قوانين العرض حين فرش لوحته على تراب جلبه من خارج القاعة الأنيقة وبارتفاع ملحوظ ، ولكن اسلوبه التجريدي القائم على تقسيم السطح التصويري الى وحدات هندسية هو ما نلاحظه في لوحته المشاركة في تلك العناوين ليصبح عنوانا مضافا اليها ، يلجأ فيها الى توشيح كل جزء بقيم زخرفية ملونة تدعم الشكل النهائي وصولا الى ثيمة مفادها أن العالم محكوم بالمنطق الرياضي الذي تتصير فيه الأشياء والموجودات ، وهذا الفعل الترميزي يحتاج أدوات المنطق نفسه لفك شفرات العمل على مستوى الشكل والمعالجات اللونية 
المقترحة.