التجربة الشعرية هي ( عملية الحياة والحركة العضوية.. ) كما يقول هربرت ريد.. والتي يخوض غمارها المنتج(الشاعر) لتحقيق عوالمه النصية وخلق رؤيته الابداعية التي هي القدرة على التعبير والابتكار والتصوير الذي يؤسس لفضاءات عوالمه الحالمة.. المستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) ويفتح باب التأويل..كونه وجودا مقترنا بالفكر المكتنز بالدلالات الذهنية المتصارعة والواقع من اجل خلق عوالم تتناغم فيها الرؤى وتتفاعل مع انساق مكتظة بالحيوية والدينامية..
والشاعرعدنان الفضلي في مجموعته الشعرية(بريد الفتى السومري)..الصادرة عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق2018..يتخطى فيها الحسيات الى افق الرؤيا بمخاطبة الوجود والاشياء بلغة الفكر المتشظي..باعتماد النص المفتوح والقصير والقصير جدا(الومضي)..ابتداء من العنوان النص الموازي والعلامة السيميائية الدالة التي اعتلت لوحة تجريدية اسهمت بتضامنها معه في الكشف عن المتن الشعري..
(في الطريق الى الناصرية/ ستجدآثار البساطيل على طول الطريق/ هي ليست للجنرالات/ انها آثار(المكاريد) السومريين/ الذين لا يجد المخنثون حطبا لنيران حروبهم المتناسلة غيرهم/ واينما تلتفت في ذلك الطريق..ستشم رائحة الشواء تنبعث من قلوب الامهات والعشيقات/ كون نارهن أزلية متقدة بوقود الفقد/ في الطريق الى الناصرية..يصادفك المخادعون والمخدوعون يرفعون رايات المظلومية/ ويهتفون للغرباء(بالروح بالدم نفديك ياهو الجان) ص8 ـ ص9
فالشاعر يشتغل على فكرة الانفتاح النصي على اجناس ادبية وفنية لمد فضاءه بما يمنحه الحرية وتجاوز القيود المألوفة والانغلاق على فضاء الشاعرية من اجل استيعاب هموم الانسان المعاصر ومعاناته باسلوب سردي شاعري.. منح النص اتساع الرؤى وتعدد احداثه مع تحرر من التأطير الزمكاني باعتماد لغة يومية خالقة لصورها ودلالاتها المتفردة والتي بتمازجها يحقق المنتج(الشاعر) حركية النص وفعله المؤثر..المنبثق من ذاته الشاعرة التي تجمع ما بين الكتابة السردية والشعرية بتفاعل وجداني ملتحم بصيرورة الحدث وتداعياته ومعطيات الواقع وافرازاته..
فالنص يقوم على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص الى مجموعات دلالية متكافئة وهي تسبح في بنيتين اساسيتين:اولهما البنية اللغوية وثانيهما البنية المعرفية..فضلا عن تجلي ابداع الشاعرفي توظيف التناص شعريا من اجل خلق انفعال جمالي يعمل على تحريك الخزانة الفكرية للمتلقي وتوليد الافكار والدلالات..اضافة الى اعتماده التراث المتمثل باللهجة العامية والاغنية الشعبية (مكاريد والنذور وشعر البنات و لو رايد عشرتي وياك حجي الجذب لا تطريه..)..بتقنية السرد الشعري لبناء نص مؤثث بالتداعيات التي يضخها زمن خارج الذاكرة..والمتميزبتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي، فضلا عن اعتماده تقنيات فنية واسلوبية منها التنقيط الدال على الحذف والذي يستدعي المستهلك(المتلقي) للاسهام في بناء النص وملء فراغاته السوداوية.. وهناك تقانة التكرار الجملي الدال على التوكيد الذي شكل لازمة افتتاحية على امتداد النص المقطعي المرتبط بوحدة موضوعية..اضافة الى اضفائه موسقة نغمية على جسده فاعلة ومتفاعلة وامتداداته الشعرية.. (كي استمر/ سأعلق شتائي على جدار أشوس/ وأترك للنهارات حق النعاس/ وبعد اغفاءة الزنابق..سأذهب الى جسد متثائب/ أوقظه بقبلة ممغنطة/ فالاستمرار عندي..أن ألج المخادع السومرية/ بحثا عن زهرة سوداء/ تشبه في انتفاضتها/ نهدا يخال يومه ساخنا في الشتاء) ص15 ـ ص16
فالنص الشعري بصفتهلغة الخيال الذي يبعث الروح في العدم) .. اشتغال لغوي تتساوق في جمله العناصر المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد..من اجل تشكيل واقع وتأسيس ذاكرة..من خلال تداخل الالفاظ والتراكيب وتفســير بعضها البعض..لانــها تقــوم على دائرة نصية مغلقة تعبر عن فكرة مركزية تدور حولها الاحداث..مع توظيف سايكولوجية التواصل الشعري لينتج صوره التي تمزج الحلمية بالخيالية في سياق حسي مقترن بالحياة بكل موجوداتها عبر ذهنية متحفزة فيقدم رؤية شعرية تلخص الواقع واشيائه ببوح وجداني ونزوع انساني متمثل في السلوك..
فالشاعر يخوض مغامرة شعرية يضمن نتائجها المؤثرة باتقانهلتكوينهالداخلي والخارجي مع قدرة في توظيف الطاقة اللغوية فيكشف عن قدرتهفي الترميز وشحن الفاظهبدلالات غير مالوفة من اجل التحليق في افق الصورة الشعرية عبر بنية نصية تعتمد التكثيف والايحاء..( من ثقب في جدار عتيق/ يطلق التاريخ اغنية اليتامى المتجددين/ يذكّر الازقة بخطوات الصبية الحفاة/ الذين صاروا فيما بعد..حطبا لحفلات الشواء المجانية/ التي تسمى سهوا(الحروب)/ لم تكن قصتهم مكتملة/ بالقدر الذي يسمح لنا بأن نصفق للجنود/ الذين تركوا خلفهم يتاماهم/ من اجل ان يكتب التاريخ..على ذات الجدار العتيق/ المجد للجنرالات) ص57 ـ ص58
فالشاعر يعتمد الايجاز والتكثيف مع اقتصاد لغوي في ايصال فكرته الشعــرية..فضــلا عن توظيــفه الفعــل الدرامي الذي ياخــذ ابعادا(نفسية واجتماعية..)تؤطر النص المزاوج بين لغة الجسد والروح كي يمنح متلقيه نشوة الاداء الشعري الذي يمسك بانزياحات المعاني التي ينتجها وهو يخوض في غمار التجربة التي تسبح ما بين عوالم الذات والموضوع..
وبذلك قدم الشاعر نصوصاتتسم بالوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالانسان والذي ينم عن تجربة محكمة في معانيها وهي تتكئ على المجاز والخيال مع امتلاكها خزينا معرفيا نفسيامحققالسايكولوجية التواصل الشعري(بوصفه خطابا غنيا بالدلالة)ليحقق الامتاع والاقناع في نصه الجامع بين الموقف الشعري الذي هو امتداد مدروس لمعطيات الزمن..والايحاء النفسي من خلال توظيفه المفردة المتوهجة ذات الدلالة الجمالية التعبيرية التي تمزج ما بين الحسي والتخييلي.. وخلق موقف يطرح فكرا باستمداد شعريته من الذاكرة والمشاهدة التي تحقق رؤية متفاعلة والانا الجمعي الاخر باقترابها من اليومي وتفصيلات الواقع بكل تناقضاته وتواتراته..