قبلتُ يده بسعادة!

الصفحة الاخيرة 2020/05/07
...

زيد الحلّي
 
العديد من هم بأعمارنا، يفرح حين يرى أحد معلميه في مرحلة الدراسة الابتدائية، مصادفة في مكان عام، فيهرع إليه بسعادة، ثم يبادره بسؤال أصبح معتاداً: ألا تتذكرني أستاذ.
أنا فلان من تلامذتك الذين كنت تعتز بهم؟ فيقف الأستاذ مذهولاً لأنَّ الزمن أخذ الكثير من ذاكرته المتعبة. 
وقد مررتُ شخصياً بهذا الموقف قبل أيام في إحدى أسواق العاصمة، إذ شاهدتُ معلمي الذي أحببته وهو يسير ببطء واضح، وبيمينه عكازة ومتكئ على ذراع صبية عشرينية، لكنه كان بذات الأناقة، عدا القوس الذي جعله محدودب
الظهر. 
تقدمتُ إليه بخشوع وطبعت قبلة على جبينه. ارتبك للحظة، ثم التفت الى مرافقته الصبية سائلاً بصوت خفيض عن شخصي، وكأنه يقول لي إنَّ في آخر العمر تصبح الأذن سلة 
مهملات.
أجبتها قبل أنْ تعيد السؤال عليّ، أنا تلميذ أبيك قبل نحو 60 عاماً، فضحكت وقالت إنها حفيدته وإنَّه الآن بعمر زاد على التسعين عاماً. 
كان سمعه ثقيلاً بعض الشيء، فقلت له بصوتٍ مسموع إنني فرح بك أستاذ وسعيد بمرآك، فانثالت دمعة منه ثم قال: أهلاً وسهلاً بك واعذرني لعدم تذكّري لك فالذين أدرّسهم سنويا كُثر، وقد مارست التعليم مدة تزيد على 60 سنة فكيف أتذكر كلّ من درّسته؟ 
ثم ربت على كتفي بيدين مرتجفتين مبتسماً: أنت تعرفني لأنني معلمك وأنا لا أعرفك لأنك تلميذ من بين عشرات التلاميذ وانَّ صورتي أمامك واحدة لكنَّ صورتك أمامي مختلطة بمئات الصور وتبادلنا السلام، ودعّته بعد أنْ قبلت يده التي طالما حملت الطبشور للإيضاح على السبورة بأسلوب سهل وعذب ما زلتُ أتذكره وكأنه 
أمس.
كان هذا المعلم الجليل يقتطع في كل حصة دراسيَّة دقائق ليحدثنا نحن تلامذته الصغار عن أهمية السلوك السوي في الحياة، مركزاً على الوفاء الذي كان يسميه عنصر الإنسانيَّة فبدونه تصبح الحياة خالية من الود والتراحم والشكر.
ومن أقواله التي ما زلت عالقة في وجداني رغم مرور عقود من الزمن ما معناه (إنَّ الوفاء وذكر المعروف خصلة يمنحها الله سبحانه وتعالى لذوي القلوب الصافية الممتلئة قوة وشموخاً)، ما أصدقك معلمي، فالوفاء سيد الأمنيات ففيه تتصالح النفوس وتتجه الى عمق سريرة التواد، وإنَّ كل موقع زائل والدنيا دوّارة لكنَّ خصلة الوفاء باقية.
وفي عالم اليوم أجد شخصياً في خارطتنا المجتمعيَّة لوحات ضبابيَّة لأشخاص أقنعوا أنفسهم من خلال مواقع حصلوا عليها في زمن الفوضى، فنسوا أمسهم وتعاملوا مع يومهم فقط، متنكرين للأيادي التي مُدت إليهم في فترة بداياتهم، ولما اشتد عودهم تناسوا تلك الأيادي، بل إنَّ بعضهم أشبهه بالأرنب الذي تحول الى ذئب، محاولاً قطع تلك الأيادي حتى لا تؤشر أصابعها الى ماضٍ لا يسر!
أشعر بالبؤس على هؤلاء الذين أشاهدهم على التلفاز أو أقرأ تصريحاتهم وأنظر الى صورهم وسمات وجوههم فأجد أنَّ كلامهم لا يشبه سلوكهم. هم والوفاء في حالة تقاطع مثل تقاطع الملح والسكر!