(السلطة القوية) بين منطقين

آراء 2020/05/07
...

مالك مسلماوي
 

القوة كمفهوم أو فعل تعدُّ عاملاً مهماً في التغيرات الاجتماعيَّة في شعوب العالم المتأخر ومنها العراق, إذ إنَّ القوة هي صاحبة الأمر من قبل ومن بعد.. فهي التي تتحكم بحركة الحياة الاجتماعية وتدير الاقتصاد وتوجهه نحو مصالح خاصة لفئات امتلكت النفوذ لظروف تتعلق بالبنية الاجتماعيَّة المتولدة عن البنية القبلية المتحكمة في الصيرورة الاجتماعية منذ أنْ كان العرب يفترشون الرمل ويلتحفون السماء وهمهم الوصول الى الماء والمراعي على امتداد صحراء شاسعة.
هذه البنية تذوب فيها شخصية الفرد لصالح القبيلة وتتحكم فيها الظروف الطبيعية القاسية ومنظومة صلدة من العادات والتقاليد العابرة للزمن.. وصولاً الى تأسيس الأنظمة الشموليَّة المستبدة بألوانها الايديولوجية المختلفة, عنصرية/ رجعية/ لاهوتية/ دينية، التي تتولى الإدارة والسياسة مدعومة بظرف تاريخي أو هوى سايكولوجي. وكلها تتفق على أنْ يكون الفرد في خدمة المشروع الايديولوجي وأوامره ونواهيه.. وفي كل حال فالفرد/ المواطن هنا تابع مطيع وعنصر مجرد تسيره السلطة كيفما تشاء وترغب, فتعمل دائماً على تغييب إرادته الحرة وطموحه الذاتي في فكره وخياراته, ليكون أداة في تكريس إرادة السلطة.
والمنهجان المقصودان هما: 1- منطق القوة. 2- قوة المنطق.. فالأول هو ما تطرقنا إليه في مستهل الحديث, وهو ما تسير عليه المجتمعات العربية منذ القدم, والذي هو صفة لازمة للأنظمة القمعية بكل أشكالها, والتي تَمنح فيها السلطة نفسها التصرف المطلق في إدارة المجتمع, وما على الأفراد إلا القبول طوعاً أو القبول جبراً, و خلافه يعدُّ الفرد خارجاً عن الأعراف شاقاً عصا الطاعة, فليحقه ما يلحقه من العقاب والعذاب والعزل.. ففي الانظمة الدكتاتورية تنحصر السلطة بيد الدكتاتور الذي تستجيب له الرعية خوفاً وطمعاً, وتظهر له الخضوع والاستسلام والولاء المطلق ليعيشوا بأمان في كنفه و رعايته، وتختلف الحال بين دكتاتور وآخر حتى تردد أخيراً وصف (الدكتاتور العادل), وشيخ القبيلة مثال واضح لهذا الدكتاتور, فهو أب وقائد وقاض في أسرته الكبيرة (القبيلة).
إنَّ النظم الاستبدادية قديماً وحديثاً كلها تعتمد (منطق القوة) للحفاظ على وجودها واستمرارها الى ما لا نهاية، إذ يرث الأبناء الآباء فالسلطة هبة من الله لهم كما يعتقدون, ورثوها ابناً عن أب وأب عن جد.. وهذا ما ينطبق على الواقع. وقد استتب الأمر لهذه الأنظمة بدعم من الدول الخارجية ذات المصالح المختلفة وبخاصة (المحتلة) منها سعياً وراء تحقيق تلك المصالح, ويردف هذه القوة قوة أخرى لا تقل شأناً مستمدة من الولاء والتبعية الموروثة التي تصل الى حد تقديس ولي الأمر.
لم يبدُ الأمرهكذا, بعد دخول الديمقراطية الى المجتمعات العربية انسجاماً مع تطلعات الشعوب الأخرى التي سبقت العرب بمئات السنين في مشوار التقدم العلمي والتقني, ونتيجة لتفجر لحظة الوعي وعوامل النهوض الاجتماعي وسطوع مفردة (الحرية) كهدف كبير, نادت الشعوب بالتغيير في النظام السياسي اسوة بالعالم المتحرر، و الديمقراطية هو منطق القوة الى ازاحة الاستبداد وتوفير الحرية للشعب في اختيار الحاكم. هذا يعني محاربة (منطق القوة) المتعسف بحق إنسانية الإنسان بمفهوم جديد ناشئ عن تراكم الوعي الاجتماعي والرغبة في تغيير شكل الحياة لصالح الفرد والمجتمع, أي لصالح الخاص والعام على سواء, بعد أنْ كان لصالح العام حصراً متمثلاً برأس السلطة (المقدسة) حصراً. والمفهوم الجديد المرتكز على درجة الوعي والفهم الكامل وتنشيط العقل الاجتماعي الذي هو حصيلة تفاعل عقول جميع المواطنين, قلب المعادلة من منطق القوة الى (قوة المنطق) .. والمنطق هو الرجوع الى العقل في حسم القضايا
 الإنسانيَّة.
السؤال الآن, هل تحولنا فعلاً الى منطقٍ جديد؟ هل تخلصنا من التبعيَّة والولاءات المطلقة للسلطة؟ هل استطعنا تأسيس مجتمع (عقلاني) يفكر ثم يقول ويتصرف؟ وهل نحن في الطريق الصحيح لبناء مجتمع ديمقراطي ناضجٍ قادرٍ على اختيار سلطته المؤهلة لقيادته في هذه المرحلة والمراحل اللاحقة سلطة قويَّة عادلة مرجعها القانون أولاً وأخيراً؟. ما زلنا نتطلع الى كل ذلك ونحن نعيش في فوضى شاملة وأزمات متوالية في السياسة والاقتصاد والإدارة والخدمات. وفوق ذلك كله انفلات السلاح المكرس لمنطق القوة القديم 
الجديد.