في كتابه (رحلتي الى العراق) للرحالة الانكليزي جيمس ريموند ولستيد، وصف طريق رحلته الشاقة الى العراق وصفاً دقيقاً لأنهارها وبواديها وقراها وجمال مزارعها ولم يترك شاردة أو واردة في رحلته إلا وذكرها بإسهاب وخصوصاً عاصمة الرشيد بغداد التي أصبحت في ما بعد ولاية عثمانيَّة بائسة تئن تحت وطأة الفقر والخوف منتبهاً الى ناسها بملابسهم الرثة وأسواقها وأزقتها ومبانيها المتهالكة، كأنَّ السماء صبت عليها جمّ غضبها، فضلاً عن تواجد عساكر البراطلية الباذخين في الصلف وسوء معاملتهم لأهل بغداد. وما انْ حط ولستيد رحاله في بغداد بفترة وجيزة في أواخر حكم الوالي داود باشا "1816 – 1831" المنشق عن الباب العالي، وحدثت أول كارثة في بغداد وتحديداً في نيسان 1831 هجمة شرسة لمرض الطاعون المميت الذي حصد أرواح المساكين بمتوالية هندسيَّة لموت لمجاني من دون رحمة وغياب واضح العلاج" وتناثرت الجثث في الأزقة والشوارع الترابيَّة وتصاعدت روائح الموت في كل مكان والناس لا تعرف ماذا تفعل إزاء موت محقق مخروم غير محتوم، إلا أنَّ الأسر الميسورة حجرت نفسها في محاجر صحيَّة يطلق عليها تسمية "كرنتينات" لتنجو بأنفسها من الفناء العاجل الذي لا يفرق بين هذا وذاك، إلا أنَّ إجراءاتهم أتت بنتائج إيجابيَّة، اختلفت الروايات عن مصدر الوباء المميت بعضها أشار الى تبريز إيران والبعض الآخر لمح الى كركوك، ومع هذه المواجهة الخاسرة، في غضون الهلاك الجماعي تعرضت بغداد الى أعنف هجمة عصابات تقودها عجوز شمطاء (على حد قول ولستيد) لشن هجمات عدوانيَّة في عمليات السلب والنهب على البيوت الخاوية على عروشها إلا من أنين خافت لمرضى في لحظاتهم الأخيرة وهم ينازعون بقايا حياة، ولم يمنع الطاعون السراق ولا شيء أوخز ضميرهم في إتمام غزواتهم حتى وصل الحال الى قطع أيدي النسوة وهن على مشارف الموت أو في النزع الأخير لأنهم على عجلة من أمرهم وكانت تلك الكارثة الثانية المذهلة، إلا أنَّ الثالثة أتمت القضاء على"دار السلام!" بطغيان نهر دجلة وتفجر أعماقه وارتفاع مناسيبه الى درجات مذهلة وقد غرقت الأحياء والأزقة وكل شيء قائم على قوائمه بفيضان عظيم لم تشهده بغداد من قبل، وتكفلت المياه الجارفة في نقل الجثث الى مثواها غير المعلوم. وفي عتمة الكوارث الثلاث سقطت بغداد بيد العثمانيين مرة أخرى حين تربص جيشها على حدود بغداد لإسقاط داود باشا بعد سكون الكوارث وذكر اولستيد تناقص سكان ولاية بغداد من مئة ألف نسمة الى عشرين ألفا وخيَّم عليها ظلال الحزن مرة أخرى، إلا أن الكوارث ما زالت تعيد إنتاج نفسها بين الحين والآخر.
ـ
تنصيص: