محمد شريف أبو ميسم
في الرابع والعشرين من شباط الماضي، دعا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، رئيس الحكومة المكلف آنذاك محمد علاوي إلى التنسيق مع الطرفين الكردي والسني إذا ما أراد أنْ ينجح في تشكيل الحكومة، فكانت هذه الدعوة مدعاة لردات فعل بعض المراقبين بوصفها تكريساً لنهج المحاصصة ومظاهر الفساد التي كانت سبباً مباشراً للاحتجاجات التي شهدتها البلاد على مدار أشهر، بينما عاد ليدعو الساسة العراقيين الى التخلي عن نظام المحاصصة بالتزامن مع تحركات رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي لتشكيل حكومته.
السؤال هنا، ما الذي يمكن أنْ نقرأه في هذا التناقض؟ ونحن نعلم أنَّ السياسة الأميركيَّة في العراق غير قائمة على رؤية شراكة أو تضاد مع العراقيين، حتى يمكن أنْ نقول، إنَّ الثابت في هذه السياسة هو المصالح الأميركيَّة بوصفها (ستراتيج) وانَّ المتغير هو الخطاب السياسي وأسلوب التعاطي مع أحداث المشهد العراقي بوصفهما (تكتيكاً) في إطار براغماتي. وهنا لا بدَّ لنا من مراجعة سريعة للأحداث التي صنعتها الإدارة الأميركيَّة للفصل بين الثابت والمتغير في سياستها، فمنذ أنْ فرض الحاكم المدني بول بريمر ومن بعده السفير الأميركي "زلماي خليل زاد" على العراقيين نهج المحاصصة الطائفيَّة، ثم تولى سفراء الولايات المتحدة الذين تعاقبوا على إدارة السفارة الأميركية في بغداد، مهمة تكريس هذا النهج بين العراقيين، بدعوى التوافقيَّة السياسيَّة وإعطاء حقوق الأقليات وضمان الحصول على الاستحقاقات الانتخابية، وسواها من المفردات التي تواترت على ألسنة هؤلاء لتكون مدعاة لمزيدٍ من الفرقة والتشرذم بين العراقيين بدعوى الإقصاء هنا أو التهميش هناك، في وقتٍ أسهمت فيه الجيوش الإعلامية في صناعة الفتن وعاشت فيه البلاد سلسلة من الاختلالات الأمنية والإدارية جراء تعميق الخنادق الطائفيَّة وجعل كل المعالجات بمثابة استهدافات لهذا المكون أو ذاك.نقول منذ ذلك الحين، والإدارة الأميركيَّة تتعامل مع العراق بوصفه مشروعاً أنفقت عليه المال والجهد، فكان الثابت أنه نواة لمشروعها الشرق أوسطي بالشراكة مع حلفائها في المنطقة، من خلال معطيات ستراتيجيَّة، كان الواضح منها مشروع "نيوم" الممتد بأراضي السعودية ومصر والأردن وإسرائيل لبناء أكبر تجمع اقتصادي وتجاري وثقافي تقوده التكنولوجيا الذكية في العالم، ثم صفقة القرن التي بشرت بنهاية الدولة الفلسطينية وتوطين المطالبين بحق العودة في شمال شرق سيناء وغرب العراق، وبناء مدينة الحرير في شمال الكويت لتكون مفتاح المرور البري بالعراق والشام نحو القارة الأوروبيَّة تحت إدارة الشركات التي تحكم العالم وبالتالي مصادرة القرار العراقي بشأن حركة التجارة بعد إفشال مشروع ميناء الفاو وإحلال ميناء مبارك العملاق بدلاً عنه، وجعل العراق خارج صناعة القرار الذي يمكن أنْ يؤثر في حركة التجارة في هذه المنطقة، فكان لا بدَّ من التأسيس، ليكون هذا البلد ساحة لتطبيق نظرية الصدمة، التي وضعها الاقتصادي الأميركي "ميلتون فريدمن" للانتقال بالمجتمعات من النظم الشمولية الى التعددية القائمة على ليبراليَّة السوق، عبر تكريس الفشل والفوضى في معطيات التحول بهدف القبول بالحلول الجاهرة في ما بعد. وعلى هذا لا حاجة للبراغماتية في بيئة متعطشة للحلول.