نظرية الحُجب!

الصفحة الاخيرة 2020/05/09
...

 جواد علي كسّار
 
كنتُ أقرأ يوماً لأحد علماء المسلمين وأحد أبرز قادة الإحياء خلال القرن الأخير، حين تحدّث عن القرآن ومشكلتنا مع كتاب الله، إذ ذكر نصاً: «نتلو القرآن الشريف أربعين عاماً، وما ثمة ثمرة أو نفع يحصل من ذلك مطلقاً، سوى أجر القراءة وثوابها».
دفعتني هذه الملاحظة للتفكير ملياً في أسباب هذه الظاهرة؛ ظاهرة قراءة القرآن الكريم وتلاوته على نحوٍ واسع، لكن من دون وجود انعكاسات أخلاقية وتربوية لهذه التلاوة، على سلوكنا وفي واقع حياتنا، هذا الواقع الذي يكشف أنه بعيد كلّ البعد عن منظومة القرآن التربوية وقيمه الأخلاقية، بحيث لم يصفُ لنا من أثر التلاوة إلا الأجر والثواب، على حدّ صاحب النص الذي إفتتحنا به!
بالفعل لا تعوزنا التلاوة، ففي شهر رمضان حيث نحن الآن، تعمر البيوت والمساجد (عدا استثناء هذا العام بفعل كورونا) والفضائيات والمحافل بقراءة القرآن وتلاوته، لكن أين تكمن المشكلة في عدم التواصل مع القرآن، بحيث تنعكس التلاوة على سلوكنا ومواقفنا في الحياة، بحسب القرآن؟
أقنعني جواب مجموعة من العلماء والمختصين بالشأن القرآني، مَن أن هناك حُجب صادّة تحجبنا عن كتاب الله، وهي بمنزلة الأسوار والجدران العالية التي تصدّنا عن القرآن. عشتُ هذه الفكرة أول ما عشتها مع أبي حامد الغزالي (ت: 505هـ) ففي الباب الثالث من كتاب «آداب تلاوة القرآن» من موسوعة «إحياء علوم الدين» تحدّث عن عشرة أعمال درجها تحت عنوان الآداب الباطنية للتلاوة، خلص فيها إلى القول: «أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحُجب».
نلحظ أن مصطلح «الحُجب» برز في سياق التعامل العميق مع القرآن الذي يتجاوز ظاهر الألفاظ ويغوص في أغوار معانيها، فلا بدَّ لمن يطمح أن يتعاطى القرآن على هذا المستوى أن يتخلّى عن موانع الفهم أو الحُجب الّتي تحول بينه وبين القرآن، وهي ترتدّ عند الغزالي إلى أربعة يرتبط بعضها بالفاعل الإنساني نفسه، وبعضها الآخر بطريق الكشف عن معاني القرآن أو بالمنهج، كما أنَّ منها ما هو أخلاقي وما هو نظري.
بالانتقال إلى صاحب الحكمة المتعالية صدر الدين الشيرازي، نجد معالجة مكثّفة لموانع فهم القرآن من خلال نظرية الحُجب، عبر كتابه «مفاتيح الغيب» الذي أراد له أن يكون مقدّمة منهجية لتفسيره القرآني.
فقد مكث غير قليل مع مقولة موانع الفهم وضرورة التخلّي عنها، لمن يريد النظر في علم القرآن والتدبّر بآياته. على أنَّ من المهمّ أن نعرف أن الشيرازي تابعَ الغزالي في هذه المسألة على مستوى المنهج والمضمُون والعبارة، إذ أن أغلب عبارات صدر الدين في هذا المضمار هي عبارات الغزالي بحذافيرها، ربّما زاد عليها أو أنقص منها عبارة، أو أتى لها بتأييد نقلي أو شاهد حسي وهكذا. 
مع أنَّ الموضوع يرتبط بمشكلة نظرية واجتماعية حقيقية على صعيد التعامل مع القرآن، إلّا أنَّ ما يبعث على الأسف هو خلوّ مصنّفات علوم القرآن قديماً والكتب المعنية بمنهجيات التفسير حديثاً من هذا المبحث، ما خلا إيماءات متناثرة.
وهذه إشارة نرجو أن تأخذ مسارها إلى ثقافتنا في التعامل مع كتاب الله بدون حُجب، كما نتمنى أن تأخذ سبيلها إلى الدراسات القرآنية المعاصرة.