عُقد الكبار!

الصفحة الاخيرة 2020/05/11
...

 جواد علي كسّار
 
أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عملتُ على موسوعة تربوية ميسّرة، صدرت فعلاً بعنوان: «تربية الطفل في الرؤية الإسلامية»، كان من بين مصادري في العمل كتاب «العُقد النفسية» لروجر موشيلي. كمعلومة أولية يشير موشيلي إلى أن المحلل السويسري وعالم النفس المعروف غوستاف يونغ (1875 - 1961م) هو أول من استعمل مصطلح العُقدة النفسية، ومن ثمّ يكون قد سبق سيغموند فرويد (1856 - 1939م) باستعماله، والأكثر من ذلك يذهب موشيلي إلى أن فرويد اقتبس المصطلح عن يونغ من دون أن يشير إليه.
تشبّه العقدة في الكيان المادّي للإنسان بمثل الدُمل التي تنشأ في الجسم، وهي بؤرة إذا أُهمل علاجها، قد يقود تفاقمها إلى قتل الإنسان. وهكذا هي العُقدة النفسية في الكيان المعنوي للإنسان، فهي بحسب تعريف روجر موشيلي؛ أنها أشياء غريبة مُلقاة في أعماق الموجود الإنساني، قابلة للصعود إلى السطح، وبإيضاح آخر، هي عبارة عن منظومات من التصرّفات المنفصلة عن الشخصية، جاهزة للانطلاق في لحظة وظرف وتأريخ معيّن، والعُقدة بهذا المعنى تنزع إلى أن تعزّز ذاتها بصورة دائمة.
العُقد بحسب هذا الكتاب المرجعي هي كبيرة وفرعية، والكبيرة منها توزّع إلى ستّ مجموعات، هي عُقدة التخلّي، وعُقدة المنافسة، وعُقدة اللاأمن، وعُقدة الخصاء، وعُقدة الإثمية، وأخيراً عُقدة الدونية. وكلّ واحدة من العُقد الكبيرة هذه تتوزّع على مجاميع من العُقد الفرعية.
تذهب الدراسات النفسية إلى أن الغالبية العظمى من الناس يُصاب بواحدة أو أكثر من العُقد النفسية الكبيرة أو الفرعية، ثمّ تُستهلك بواحدٍ من أربعة طرق، الأول هو التذويب وأن تتحوّل إلى حافز لفعالية استثنائية ونشاط كبير وعطاء متميّز، كما حصل عند باستور ونيوتن وانشتاين، الذين حوّلتهم عُقدهم إلى نوابغ.
الطريق الثاني تتلاشى فيه العُقد بمرور الوقت وبتأثير التربية السليمة والمعلم الناصح والمحيط الاجتماعي الموائم. ولدى حوالــــــــــي 90 ٪ من المصابين تظهر حالة التعايش مع العُقد، لكن مع مفارقات سلوكية وأخلاقية، على حين ينحصر الطريق الرابع بانفجار العُقدة انفجاراً تهييجياً حاداً يقود صاحبه إلى الجنون، وهذه الأخيرة تعبّر عن حالات قليلة، بل نادرة.
تعبّر لغة التحليل النفسي عن طرق تصريف العُقد النفسية واستهلاكها، بأربع وسائل أو آليات، هي التعويض، والتعويض المفرط، والتصعيد، وأخيراً العقلنة النفسية. ففي آلية التعويض المفرط مثلاً، ينحو صاحب العُقدة إلى إلغاء سببها بالضديّة، فإذا كان مصاباً بعاهة جسمية تحول بينه وبين ممارسة رياضة معيّنة، فالتعويض المفرط يدفعه إلى أن يصبح بطلاً فيها وهكذا.
تذهب أغلب دراسات التحليل النفسي إلى أن العُقد تنغرس لدى الإنسان في الصغر، ليعاني منها في الكبر، كعُقد نقص المحبة والحنان والاحترام، واليتم والفقر وسوء المعاملة، والتمييز العنصري والجنسي والديني، والخوف والقمع الشديد وغير ذلك. معاناة الكبار أو عُقد الكبار هي التي دفعتني للكتابة عن الموضوع، خاصة وأنا أتابع شكاوى النساء من الرجال، وشكاوى الأولاد من الآباء والأمهات، أو الشكاوى من الكبار عموماً، في ظلّ أوضاع الحجر المنزلي لمليارات من البشر.
يعتقد البعض أن المشكلة في سلوك الكبار تعود إلى الحجر نفسه، في حين أعتقد أن أغلب الأسباب في الشكوى من الكبار تعود إلى عُقد الكبار؛ هذه العُقد التي كانت متوارية خلف غياب الرجل عن البيت، والانفصال النسبي للوالدين عن الأولاد لضرورات المعيشة وواجبات العمل، ثمّ عادت لتظهر مرّة واحدة عندما أصبح الجميع تحت سقف واحد.
ما أريد قوله، هو: ارحموا الكبار بالمحبّة والاحترام والكلمة الطيبة والموقف النبيل، لأنهم ورثوا عُقدهم من مرحلة الصِغر، وحملوها على أكتافهم في الكِبر!.