مستر فاضل

الصفحة الاخيرة 2020/05/12
...

حسن العاني 
 
عندما حل عام  1969، أعلنت إفلاسي رسمياً، وانضممت الى خانة المجموعة التي تعيش (تحت خط الفقر) كما يسمونها اليوم، وعلة ذلك ان أمي رحمها الله ألحت قبل هذا التاريخ بسنة واحدة، وركبت رأسها وقررت تزويجي كي تقر عينها وتهنأ بذريتي ولم تفلح اعذاري معها كوني معلماً حديث العهد بالخدمة وراتبي بالكاد يسد مصروفاتي، خاصة وأنا طالب جامعي في مسائية المستنصرية وادفع اجور الدراسة والكتب والطريق ولكن من يقنع المرحومة؟ وقرت عينها بزواجي ولم تقرّ عيني، وزوجتي ليست موظفة بينما تعرضت عيناي كلتاهما للعشو الليلي والنهاري، ففوق المصاريف القديمة كلها، اصبحت ملزماً بمصاريف جديدة ومرهقة للغاية فقد بات لزاماً علي ان ادفع ديوناً واقساطاً لا اول لها ولا آخر من غرفة النوم الى بدلة العرس ومن حفلة الزفاف الى ربطة العنق وانا ما زلت طالباً ادفع أجور الكلية ومعلماً بالراتب نفسه، ما اوجعني شيء في ليالي الارق والضنك والحاجة مثلما أوجعني وضع زوجتي المسكينة فتاة في أول شبابها وزوجها غير قادر على ان يدعوها الى مطعم لتناول لفة فلافل، ومع ذلك لم تتضجر يوماً او تتأفف، بل كانت تبدي القناعة وتظهر الرضا وتحرص على ان لا تفارقها الابتسامة، وأنا اعرف ان قلبها ينزف حزناً مكبوتاً ولهذا طالما فكرت في ليالي النحس تلك، ان اسطو على البنك المركزي ووضعت عشرات الخطط جميعها فاشلة مثلما فكرت ان امتهن الفساد المالي، ولكن ماذا يمكن لرجل مسالم مثلي ان يسرق وربما لو كانت رواتب المسؤولين والنواب يسيل لها اللعاب، كما هي اليوم، لرشحت نفسي وزورت ورشوت وبذلت المستحيل كي أصبح مسؤولاً او نائباً!!.
رب العزة وحده ارشد بصيرتي كي اشتغل عاملاً في شركة بلغارية تتولى مد الانابيب الخاصة بشبكة المجاري في منطقة الاعظمية واتقاضى اجراً يومياً قدره( 600 فلس) وما كنت لاحصل على هذه (الوظيفة) المؤقتة في العطلة الصيفية فقط من دون (واسطة)، وكان صديق من عمري هو (واسطتي) لديه احد اقاربه يدعى (فاضل السامرائي) يعمل بصفة مراقب على العمال ضمن الشركة... وقد قصدت المكان، وهو قريب من ساحة عنتر، ورأيت شاباً في مقتبل العمر خمنت انه مهندس بلغاري، بل لا يمكن ان يكون غير ذلك، اصفر الشعر بعينين زرقاوين وبشرة بيضاء، ويرتدي ملابس نظيفة ويقف الى جانب مضخة تسحب المياه الجوفية. 
وقد أربكني الموقف لأنني لا اعرف بأية لغة يتحدث البلغاريون ولم تكن امامي حيلة الا اللغة الانجليزية لعله يجيدها، ولكنني لا احسن التخاطب بها، وبمعونة ذاكرتي وما بقي في ذهني من مفردات انجليزية (دبرتُ) جملة بسيطة ترجمتها (رجاء اين السيد فاضل)، نظر الشاب الي بازدراء وقال (روح بويه شوفه هناك) واشار بيده الى الموقع، وسمعته يدردم مع نفسه وأنا اتوجه صوب اشارته، (والله هذا بطران.. إحنه العربي ما مدبري.. والافندي يرطن اجنبي) وحين توطدت علاقتي لاحقاً بذلك (المهندس) البلغاري، اكتشفت انه (عامل) من مدينة العمارة وانني انخدعت بسحنته الاوروبية، مثلما انخدع هو بلغتي الاجنبية!!.