حكومة الكاظمي في بغداد.. وقبلها حكومة دياب في بيروت أوجه الشبه المتعددة

آراء 2020/05/13
...


ابراهيم بيرم *
في أعقاب استيلاد حكومة مصطفى الكاظمي في بغداد، بعد طول مخاض أخيراً، اختارت نخب سياسية وفكرية في بيروت، أن تعقد مقارنة بين الظروف التي أنتجت قبل أقل من ثلاثة اشهر حكومة حسان دياب في لبنان، وبين "البيئة السياسية" التي سمحت بالولادة الحديثة جداً للحكومة العراقية الجديدة، وقد طاب لها بأن تخرج بمعادلة رضائية فحواها ان هذه النتيجة الفارضة نفسها للتو، إنما هي وصفة ملائمة لجسد سياسي مُعتل بالعلل ومبتلٍ بالتناقضات والحسابات الضيقة ومنخور حتى العظم بالانقسامات العميقة عمودياً وأفقياً، كما هو حال الاجتماع السياسي في كل من بلاد الأرز وبلاد الرافدين، فيكون هذا الاستنتاج "المريح" بمثابة تعويض معنوي لحاملي الهم السياسي في كلا البلدين، اذ يمكن للعراقيين أن يجول في خاطرهم ما مفاده أن ثمة آخرين يشابه حالهم حالنا في العالم العربي، واستطراداً يبيح اللبنانيون لأنفسهم أن يريحوا أنفسهم ويبرئوا ذمتهم بقولهم ان ثمة بلداً عربياً أكبر وأغنى وأعرق تاريخاً وحضارة يحاكينا في التعثر السياسي وولوج شرنقة الأزمة بين فترة وأخرى.جذور المقارنة إياها تضرب إلى أبعد من اللحظة الراهنة والحدث المستجد، إذ يحلو لحامليها أن يعودوا بالذاكرة إلى فترة ولادة الكيانين، ونشوء الدولتين الوطنيتين في كل من بلاد الرشيد وبيروت، حيث يشهد التاريخ بأن كل ولادة كانت مخاضا عسيرا وحدثا منهكا ثم من دون إجماع وطني، بل في ظل انقسامات فعلت فعلها ولم ينجح تقادم الزمن في بلسمة الجراح والتصدعات.وأوجه الشبه في المقارنة إياها تتوالى وتمتد.. فبهذه فرض إجماع قسري وضغط دولي في طي صفحة الحرب الأهلية المدمرة في لبنان عام 1990 تحت لواء صيغة سياسية شابها الكثير من الابهام والالتباس والغشاوة كأنها ركبت على عجل وكيفما اتفق الأمر، أطلق عليها اسم وصيغة اتفاق الطائف، وعدها البعض عقدا اجتماعيا جديرا، بينما وصفها البعض الآخر بأنها "اتفاق الضرورة" لكنه كان بمثابة ميثاق جديد انطوى على وعد بالتغيير والتطوير، وفتح الكيان على أفق سياسي لا يقود بالضرورة إلى تأزم واحتراب كل عقد من السنين كما هو واقع الحال المشهود في لبنان منذ استقلاله عام 1943، لكن رياح الأمور سارت خلاف ما اشتهاه المكتوون بنار الحرب الأهلية والتي امتدت لأكثر من عقد ونصف عقد. وفي العراق تجربة مماثلة قريبة، اذ سقوط النظام الصدامي بدعم واضح من دبابات المحتل الأميركي في ربيع عام 2003 كان بمثابة حدث مدوٍ وتاريخي ربما أغرى كثيراً من العراقيين الملسوعين بنيران العهد الصدامي الجهنمي، الذي دمر النسيج الاجتماعي العراقي، وشوه الشخصية العراقية وزاد في معاناة بلاد الرافدين ليحيلها إلى حطام وركام على كل المستويات، بوعود تغيير آتية ساعتها ولا ريب، تقود إلى طي صفحات سوداء من تاريخ هذا البلد العريق وتعيده آمنا مستقرا في ظل نظام ديمقراطي تعددي، ليسقط وإلى الأبد النظام الفاشي التسلطي الإلغائي.ولكن التجارب السياسية المتوالية فصولا منذ أكثر من عقد ونصف عقد من السنين، ما لبثت أن بددت من مساحات الوجدان وصفحات الأذهان هذا الاعتقاد، فصناديق الاقتراع التي امتدت لأربع دورات، أفرزت أزمات وجولات تشكيك وحالات استعصاء سياسي، ومع كل ولادة لحكومة جديدة كانت حالة التأزم تحضر، ويصار ظهور الحكومة عبارة عن ولادة قيصرية تنتج في خاتمة المطاف مولودا مشوها، وحالات تأزم سياسي تتسع معها حالات الفساد والإفساد وعمليات الهدر ويعجز الرؤساء عن أداء دورهم والقيام بما هو منوط بهم، ويخرجون بعد فترة من الزمن من رأس هرم السلطة، تلاحقهم اللعنات وتحاصرهم الشبهات والاتهامات فيصيرون منبوذين حتى داخل بيئاتهم السياسية ويغدون نسيا منسيا.كان البعض يدرج مسار الأمور حتى حكومة عادل عبد المهدي، في خانة ان واقع ما بعد سقوط نظام صدام حسين، وانطواء صفحة "العهد الأميركي"، أي عهد الاحتلال الأميركي المباشر، حيث ثمة مخاض سياسي يبدو طبيعيا سينتهي عاجلا أم آجلا إلى ولادة حال استقرار وتداول للسلطة، يتم التأقلم معها والتكيف مع مقتضياتها والتأقلم مع مندرجاتها، لكن اشتعال فتيل  الاحتراب في الساحة السورية المجاورة أفضى إلى معادلات وقواعد سياسية وعسكرية مختلفة ألقت بنفسها على الساحة العراقية أوزاراً وأعباء وأثقالاً مضاعفة. فبعد أقل من عامين على انطلاق الحدث المدمر، كان "الارهاب الداعشي" يكشف عن نفسه في وسط العراق، ويفعل فعله الإجرامي ولا يخفي رغبته بالسيطرة على مقاليد الوضع في كل العراق، فيستولد ذلك واقعا جديد وعمقا في مأساة العراق الاقتصادية والعسكرية والسياسية.وأكثر من ذلك، جعل الساحة العراقية ساحة مواجهات إقليمية، اذ استدرج الوضع المستجد صراعات ومناوشات، واستطراداً انقسامات استمرت لأكثر من 5 أعوام. وبمعنى آخر، أضعف هذا الوضع المستجد من قدرة النخب والمكونات السياسية العراقية على الإمساك بزمام اللعبة والقرار.
ومما فاقم في حال التخبط والفوضى اندلاع الحراك الشعبي في الشارع فارضا نفسه معطى ثابتا لا يمكن تجاوزه يستظل مبررات تكتسب صدقيتها وشرعيتها من حالات الفساد الضارب أطنابه، فضلا عن نتائج المحاصصات السياسية وعن الوضع السياسي المهتز والمهترئ الذي ليس بمقدور أحد الدفاع عنه، أطاح ذلك كله بحكومة عبد المهدي وأظهر الحاجة الملحة إلى مقاربات سياسية مختلفة بغية التصدي والمعالجة.وخلال خمسة أشهر من استقالة عبد المهدي الشخصية الاكثر مقبولية التي لم يكن بمقدورها تحمل تحديات سياسات الحكومة السابقة، تصدى ثلاثة لتأليف الحكومة لكنهم سرعان ما كانوا يعتذرون لأن الأمور بلغت درجة متقدمة من التعقيد. إلى أن أثنيت الوسادة بسحر ساحر وقدرة قادر، لرئيس المخابرات العراقية، وبالتالي تمكن في وقت قصير من تأليف حكومة نالت ثقة عجزت عن نيلها شخصيتان أكثر حنكة وحضورا منه.
هل هو مجرد ضربة حظ أم هو شيء آخر؟
هنا، فإنه يعاد الاعتبار إلى المقارنة بين  ولادة حكومة دياب في بيروت وحكومة الكاظمي في بغداد، ويمتد الحديث عميقا عن أوجه الشبه الكبيرة. فالاثنان لم يأتيا من منبت سياسي عريق، وكلاهما أيضا ليست لديهما تجارب حكم سابقة، وكلاهما أسقطا إسقاطا من علي، في ذروة تأزم في البلدين فما هي الأسباب؟
ولا ريب متعددة :
- قوى سياسية منهكة وعاجزة في العراق ولبنان، وكل تجاربها السابقة في الحكم، محاصرة بالشبهات والخيبات والأزمات.
- المواجهات الإقليمية بين المحورين الأميركي والايراني، بلغت ذروتها وامتدت على طول ساحات عدة: اليمن، العراق، سوريا، لبنان وفلسطين.. فضلا عن منطقة الخليج وخليجها البحري وكانت على درجة غير مسبوقة من الضراوة والشراسة.
- في لحظة معينة، برزت بوادر حاجة الطرفين إلى إبرام تسويات ربما تكون مقدمات لشيء أكبر وأعمق.
ففي بيروت أبعد وريث الحريرية السياسية سعد الحريري فجأة عن الحكم بإشارة من مرجعية العربية (السعودية) وفجأة برز الرئيس حسان دياب الأستاذ في الجامعة الأميركية الذي لم يعرف سابقا أي انتماء أو تجارب، وينجح في نيل ثقة البرلمان بصعوبة، ويمضي قدما في حكومة تكنوقراط، لا تمثل إلا ثلاث قوى سياسية، ولكنها من مكونات المشهد السياسي والحزبي، ولكن الآخرين وإن كانوا معارضين، إلا أنهم عاجزون عن تقديم بدائل، وخصوصا ان حكومة دياب تلقى تعاطفا شعبيا واسعا.
الأمر نفسه يكاد ينطبق على المشهد السياسي العراقي، فأحد لم يكن ليعتقد بداية أن الكاظمي سيمر، لكنه ألّف حكومته مبدئيا، ونال الثقة ومضى إلى غايته، وكان أول مهنئيه السفير الإيراني، رغم ان القوى السياسية الموالية لطهران لم تبد بداية حماسة له، إن لم تكن قد عملت على نبذه.
حكومة الكاظمي في عاصمة الرشيد وحكومة دياب في عاصمة بلاد الارز، كلاهما وفق اعتقاد راسخ في العاصمة اللبنانية نتاج أول لتسوية أولية وغير نهائية إيرانية – أميركية.
والمهم ماذا بعد؟ واستطرادا هل بإمكان هذين الرجلين الوافدين حديثا إلى نادي رؤساء الوزراء ان يخرجا بلديهما من نكبتيهما؟
الأمر ليس سهلا، فدونه عقبات كأداء، وكلاهما يتصرفان وكأنهما "فدائيان" قد قررا إمساك كرة نار ملتهبة.
ولكن الثابت في أوساط بيروت السياسية المتابعة أيضا عن كثب مآلات الوضع العراقي أن ثمة مرحلة بدأت لتوها في كلا البلدين، من عناوينها العريضة:
- على مكونات المشهدين السياسيين في البلدين أن تنكفئ بعد تجارب مخفقة.
- إن  واشنطن وطهران ارتضيتا أن تقدما انموذجا جديرا في الشراكة عبر حكومات بلا هوية فاقعة.
 إن كلتا العاصمتين اقتنعتا بأن انموذج رئيس الحكومة الصارخ بانتمائه قد طوي إلى أجل غير مسمى ومسرح المشهد فتح ستارته أمام تجربة جديدة، انطلقت لتوها من بغداد وبيروت.
 
* كاتب من لبنان