د. عبّاس آل مسافر
مَنْ منّا لم تطالعه في طفولته الأيقونات المحاكية لشخصيّة الإمام علي أو لأحد الإئمة المعصومين "عليهم السّلام" أو صورة العبّاس بن علي وهو على فرس طهماء يحمل جودَ الماء بيده ليسقي العطاشى من الأطفال الحاضرين في معركة الطف، ومَنْ منا وبمختلف الأعمار والمستوى الثقافيّ والمعرفيّ من لم تسحره تلكَ الوجوه المحاطة بهالة من النور والشعاع الإلهيّ، والتي تزين جدران الغرف العتيقة للبركة والاستذكار أو في الجوامع والحسينيّات، إذ كان يأخذنا الخيال عميقاً داخل نفق التاريخ، وصولاً إلى العصر النبويّ الأول، إلى تلك الشخصيّة التي تحمّلت عناءَ مساندة النبوّة في سرها وعلنها في حربها وسِلمها.
لكن السؤال الذي كانَ غالباً ما يداهمنا ولم نجد له جواباً، هو لماذا تختلف شخصيّة الإمام علي المرسومة من صورة لأخرى، ما سرُّ هذا الاختلاف، وإذا كان الرسامون يستقون مواصفات شخصيّة الإمام من بطون الكتب والروايات الواردة فيها، فلماذا لم يتفقوا جميعهم على "بورتريه" واحد؟ ولماذا تتعدّد المكونات الأخرى في اللوحات المرسومة من فضاء وحيوانات مثل الفرس والأسد، وتختلف مواقعها في تلك اللوحات.
في مقولات "علم السيموطيقيا" أو كما يسميها دو سوسير "علم السيمولوجيا" ولاسيما ما يتعلق من تلكَ المقولات بعلامة الصورة ورمزيتها فإنّ الصورة سواءً تلكَ التي كانت من نوع "البورتريه" أم من "اللوحة الانطباعيّة أو اللوحة السرياليّة" هي علامات كبرى في منظومة الثقافة، ويُنظر إلى هذه "العلامة" على أنّها مكوّنة من دال ومدلول، ويُسند الدال إلى الفنان الذي قام بإنتاج هذه العلامة، والدلالة إلى المجتمع الذي تلقاها وحاول أن يفكّك شفراتها بواسطة السنن الثقافيّة، والسياق الذي عبَرت من خلاله الرسالة / الشيفرة، أو كما يرى "أرثراسا بريجر" بأنَّ ليس ثمة صعوبة في تفسير الأيقونات لأنها تتواصل بالتشابه، إلا أن فهم العلامات الدلائلية يستلزم إيجاد علاقة مابين العلامات ومعانيها، أما الرموز فعرفية أو اصطلاحية بحتة، مما يعني ضرورة معرفتنا لمعانيها. ومن هنا تتأتى صعوبة فهم بعض اللوحات من الحقب الفنية السابقة، لصعوبة فك شفراتها الترميزية، ولذا فإن فهمنا للرسائل التي تبثها هذه اللوحات يظل قاصراً وبدائياً إلى حد ما. هذا بالنسبة للوحات العادية، فما رأيك لو كانت تلك اللوحات تحاكي شخصيّة تاريخيّة مهمة ناصعة في مسيرة الحياة، كشخصيّة الإمام علي، فما أحوج الباحثين والقرّاء العاديين أو غير العاديين، لكشف البنى الثقافيّة ومرجعيات الرسامين الذين شغفوا برسم تلك الشخصيّة، ولا يستطيع ذلكَ إلّا من أوتي حظ كبير في الفن، وفطنة وذوق عاليين، منبثقاً من داخل هذه المنظومة الثقافيّة لا خارج منها أو عليها. لذا فقد انبرى لهذه المهمة العسيرة الدكتور شاكر لعيبي وتصدى إلى ما عزف عنه الباقون ـ خوفاً أو عجزاً ـ لتحليل البنية الاجتماعيّة والثقافيّة التي انبثقت منها تلك الرسومات، والتي راجت داخل الأوساط الشعبيّة ففي كتابه المعنون "تصاوير الإمام علي مراجعها ودلالاتها التشكيلية" والصادر عام 2011 عن دار الريس في لبنان، يقف المؤلف على الكثير من الأمور الخفيّة عنّا، والتي تظهر على شكل علامات سيموطيقيّة ورموز وأيقونات حولها إلى سرد، فمثلاً يحلل لنا لعيبي سبب انتشار "بورتريه" للإمام وهو على متن جواده في بلاد مثل سوريا وبعض البلدان الإسلاميّة، بينما ينتشر "بورتريه" آخر للإمام نصفي مرسوم لجسده الشريف من المنتصف وهو يضع سيفه في حضنه، الشيء الملفت للنظر بأن المؤلف قام بإرجاع الرسوم إلى صناعة فطريّة وقد تعمق في تعريف هذا الفن "الفطريّ" وأسباب ظهوره، وكيف أنّه يضيف من الواقع المعاش على اللوحة المرسومة، كذلك نجده وقد انغمس في الربط السيميائي بين الدال والمدلول للوحات، وأخذ بتفسير العلاقة التي ننتج من خلالهما وهي "الدلالة" التي يعنى بها المتلقي البصريّ. ويقوم بتأويل كل عمل فني بحسب ثقافته وإيمانه ومرجعيّاته ومستواه المعرفيّ.
لقد لجأ لعيبي إلى إرجاع ما أسماها هو بظاهرة "تمصير المشهد ومسرحته" وهذا قد يكون برأيه متأتيا من أثر السينما وانتقال هذا التأثير إلى فن الرسم، كذلك أثر البيئة المصريّة في لوحات رسم شخصيّة الإمام عليّ، ويؤكد حقيقة غائبة عن الباحثين في الفنون، وهي أنّ تاريخ رسم شخصيّة الإمام كانت متقدّمة زمنياً جداً، ويعود بنا إلى عصر ابن ابي الحديد المعتزليّ ت 656 هـ شارح "نهج البلاغة" حيث يقتبس حول أولى الرسومات منه الحديث التالي" وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عبادتها، حاملاً سيفه مشمراً لحربه، وتصور ملوك الروم والديلم صورته على أسيافها: كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان على سيف ألب ارسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر"، كذلك ينقل عن إخوان الصفا الذين شاعت الإشارة لثقافة الرسوم المسيحيّة في مؤلفاتهم. كما أننا نلمس في الكتاب محاولات في تأصيل "الفن الفطريّ" وإرجاع بعض التأثيرات فيه إلى رسومات قديمة عُثر عليها في المخطوطات والمصنفات القديمة، وتؤرشف هذه الرسومات أحداثاً تأريخيّة عميقة ولها أثرٌ كبيرٌ في المجتمع الإسلاميّ عموماً العربيّ منه وغير العربيّ، ومنها ما يتعلق برسومات تصور معركة بدر الكبرى، وواقعة صفين أيضاً و قد يكون لرسوم بعض الشخصيّات التاريخيّة مثل "عنترة العبسيّ" أثر في بعض اللوحات من خلال حركة الفرس أو الجو الصحراويّ والسمات البدويّة السائدة في بيئة الجزيرة العربيّة، أيضا قد يكون لرسومات المغول و الصفويين والفرس وتخطيطاتهم أبعادٌ سيوسيولوجيّة في بعض الرسومات وأيضاً .إنَّ متابعة المراحل التي مرّت به أجيالُ الرسامين كانت من أهم سمات "هذا الكتاب"، فقد تابع التطور الذي حصل لدى الرسام نتيجة انتقال الرسم البورتريهي للشخصيّات من "الفن العفويّ" إلى "الفن الاحترافيّ" وأيضاً تحول بعض صور الإمام إلى (logo) أي شعار عالميّ خرج من المحليّة. ويدعم المؤلف كل أرائه بنماذج من اللوحات المرسومة بريش رسامين عرباً وغير عرب، وتابع أساليب الرسم المختلفة من الزيتيّ والرسم على الزجاج والمنمنمات وينبني هذا الكتاب على أربع مقاربات رئيسة تضم عدداً من المكونات الفرعيّة الأُخر، وهذه المقاربات هي:
أولاً : كشف المرجعيّات الشعبيّة وغير الشعبيّة لرسومات الإمام علي "عليه السلام".
ثانياً : أثر الأيقونات المسيحيّة في الرسومات الخاصة بالإمام علي " عليه السلام" وبعض الأئمة.
ثالثاً : مؤثرات العصور السياسيّة في رسومات خاصة بالإمام علي "عليه السلام" وباقي الإئمة.
رابعاً : الفن الفطريّ والكيفيّات التي تم بها رسم الشخصيّات المقدّسة