في رحاب الأمير!

الصفحة الاخيرة 2020/05/15
...

 جواد علي كسّار
أرسل الإمام علي بن أبي طالب وهو خليفة المسلمين؛ أرسل عبد الله بن عباس (ت: 68هـ) مبعوثاً إلى الخوارج، فنظر في أمرهم وكلّمهم، ثُمّ رجع فسأله الإمام: ما رأيت؟ فقال ابن عباس: والله ما أدري ما هُم! فقال له الإمام: رأيتهم منافقين؟ فقال: والله ما سيماهم بسيماء المنافقين؛ إن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتلون القرآن. فبتّ أمير المؤمنين عليه السلام في أمرهم، بقوله: دعوهم ما لم يسفكوا دماً أو يغصبوا مالاً. 
لقد خرج هؤلاء على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين والقائد الأعلى للأمة الإسلامية، بيد أنه لم يواجههم بأكثر من أن تركهم وشأنهم، إلا أن يتعدّوا حرمات الله وينتهكوا حقوق الآخرين بالتعرّض للأنفس والأموال.
في محاولة أخرى لإعادتهم إلى الصفّ الإسلامي، بعث إليهم الإمام أمير المؤمنين عبد الله بن عباس وصعصعة بن صوحان (ت: 56 أو 60هـ) فدعاهم إلى الجماعة وناشداهم فأبوا عليهما، فلما رأى الإمام ذلك أرسل إليهم: إنا نوادعكم إلى مدّة نتدارس فيها كتاب الله لعلنا نصطلح.
عن كيفية الحوار أضاف الإمام: أبرزوا منكم اثني عشر نقيباً وأبعثُ منا مثلهم، ونجتمع بمكان كذا، فيقوم خطباؤنا بحججنا وخطباؤكم بحججكم. 
فالإمام أمير المؤمنين لم يستلّ السيف في مواجهة المعارضين ما دامت معارضتهم في حدود إبداء الرأي المخالف لرأي الحكم، بل اعتمد في مواجهتهم منهجاً سلمياً قوامه اللين والحوار والحجّة العقلية، مع أنه الحاكم الأعلى، وهو في شجاعته عليُّ بن أبي طالب مجندل الفرسان وقاتل الشجعان، وفارج الكروب بسيفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن المشهودة. 
بل زاد في ذلك أنه سأل مبعوثه ابن عباس، عندما زارهم في معتزلهم بحروراء قرب الكوفة؛ سأله عن وجيههم الذي يلتفّون حوله، وإلى كلمته كيف يسمعون، وبتعبير الإمام لابن عباس: بأيّ القوم رأيتهم أشدّ إطافة؟ قال: بيزيد بن قيس الأرحبي. أصابتني الدهشة وأنا أتابع الواقعة التاريخية، حيث تذكر أن الإمام علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته البتول، ورئيس الدولة الإسلامية، دخل معسكر الخوارج وهم معرضون عنه، لا يحدّثونه ولا يسلّمون عليه، وهو صابر على إعراضهم هذا، بسعة صدر الحاكم الرؤوف الحريص على رعيّته، إلى أن وصل إلى خيمة وجيههم الأرحبي، فصلّى فيها ركعتين في مبادرة سلمية وإيمانية رائعة قبل أن يتوجّه إليهم بالكلام.
يقول النصّ التاريخي في تصوير الواقعة: فركب علي عليه السلام إلى حروراء، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثمّ خرج فاتّكأ على قوسه وأقبل على الناس.
لم يبال بإعراضهم وصدودهم عنه ولم تخرجه معارضتهم عن طوره، وعن حرصه في إعادتهم إلى الصفّ الإسلامي، بل بادرهم بسؤال: أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا: منّا من شهد ومنّا من لم يشهد، قال: فامتازوا فرقتين، ثُمّ حدّث كلّ فريق بكلامه.
انتهت جولة الحوار والمدارسة بالشأن السياسي إلى عودة أكثر من ثلثي الخوارج عن رأيهم، ليحقّق بذلك الإمام أمير المؤمنين كسباً سلمياً للمعارضة وحقناً للدماء، وقد حصل ذلك كله تحت نداء رجل الهداية الرباني، سلام عليه يوم ولد ويوم استُشهد في محراب الصلاة.