قدوة النظريَّة والتطبيق من التاريخ الى المعاصرة
ثقافة
2020/05/16
+A
-A
علي عزيز السيد جاسم
وبالرغم من مرور أكثر من 32 عاماً على الظروف المحيطة بالكتاب وما كتب ونشر عنه من كتب ومؤلفات ودراسات ومقالات وإعادة طبعه لأكثر من 8 طبعات أو يزيد على ذلك، إلا أنَّ الكتاب لا يزال غير متاحٍ في المكتبات العراقيَّة، فهو غير موجود في شارع المتنبي ببغداد ولا في مكتبات الكاظميَّة التي تستورد أغلب كتبها من مدينة قم الإيرانيَّة في ما يتعلق بالكتب ذات الطابع الإسلامي، كما أنه غير متوفر في مكتبات محافظة النجف مدينة علي بن أبي طالب ولا في كربلاء ولا في أي محافظة ومنها ذي قار مسقط رأس المؤلف، فأي تكريم هذا لعلي وللمؤلف؟!. بينما المطابع التابعة للمؤسسات الدينيَّة والمعنيَّة تطبع يومياً عشرات الكتب والمنشورات التي تتباين في جديتها ورصانتها وجودتها وأهميتها. فهل درجنا الى هذا الحد على التقاعس الذي يعدُّ شكلاً من أشكال التغريب الجديد؟. ذلك ما لا أتمناه.
يوحي عنوان الكتاب (سلطة الحق) الى ما هو سياسي أكثر مما هو ديني، أو سرد سيرة تسجيليَّة تكررت في أكثر من كتاب، ولقد استطاع المؤلف بأسلوبه الأدبي الشيق وعباراته الجزيلة مزاوجة الجانبين، وربط الماضي بالحاضر، واستقاء العّبر والمواعظ والمواقف التي تمثل العدل والإيمان والحق والزهد والتطابق بين القول والفعل، والنظرية والتطبيق، لدى القائد والإمام، سواء كان في أعلى هرم السلطة أم بعيداً عنها، وقد وجه الكتاب نقداً لاذعاً لمدعي الحق والسلطة العادلة، وفضح زيف كذبهم بالواقع الملموس الذي عده معياراً للقياس بين ما هو معلن وما هو واقع، وقد أشر بوضوح الى السياسات الرجعيَّة والدكتاتوريَّة الحديثة التي تدعي الانتساب الى علي بن أبي طالب أو تدعي السير على نهجه، فيقول في مقدمة الفصل السابع الذي يحمل عنوان: سلطة الحق في رفض السلطة ص 221 طبعة دار الشؤون الثقافيَّة لسنة 2012: ((يعدُّ موضوع السلطة من الموضوعات بالغة الأهمية، وفيما إذا وضعت (السلطة) موضوع التحليل من الجانب الفردي، أي من جانب الحاكم لا من جانب الطبيعة الموضوعيَّة لها، فإنَّ مُدخلات عديدة تجعل من الصعب الوصول الى تحديدات دقيقة في صوابها، بدون الأمانة التاريخيَّة، والأخلاقيَّة.
فكل حاكم يدعي انه زاهد بالسلطة، وانه يستخدمها لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولتقديم الخدمات السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة للمجتمع. ويشترك في الادعاء المذكور الحكام من مختلف الأصناف: الملكيَّة والجمهوريَّة، القديمة والحديثة، الدينيَّة واللا دينيَّة.
ولا يكون الحاكم فرداً بالمعنى المعروف للفرديَّة، ذلك لأنه يمثل مصالح فئة معينة داخل الدولة وخارجها، سواء أكانت هذه الفئة قديمة أم جديدة، فإنَّ التلابس بين مصالح الفرد الحاكم، والجماعة التي تتصل مصالحها بمصالحه، يحمل قدراً كبيراً من الامتزاج، مع ما يعتور ذلك من متناقضات. غير أنَّ ما يقررُ ـ بالنتيجة ـ معنى سلطة الحاكم وقيمتها، النتائج الواقعيَّة التي يسطرها سجل التاريخ.
ولا يهم البشرية أنْ يقال هذا حاكم قوي، وذاك حاكم ضعيف، فقد حفل التاريخ الإسلامي ـ مثلا ـ بآلاف الأمثلة في ذلك، دونما فائدة تُذكر.
إنَّ البشرية بحاجة الى حاكم النبراس الذي يقدم للمجتمعات ثماراً أبديَّة في العدل، وفي الفكر، وفي الممارسة.أي إنَّ المقياس في تقويمات كهذه، هو مقياسٌ موضوعي يخص الفوائد الوطيدة للبشر، وليس مقياساً فردياً، كما يجنح عادة بعض الكتاب والمؤرخين إلى تفصيل الخصائص الشخصيَّة، والأسريَّة للحاكم)).
رقابة رجعية
ومن المهم الإشارة في هذا السياق الى أنَّ الرقابة الرجعيَّة التي لم تجز طباعة الكتاب في بغداد سنة 1988، وما رافق ذلك من تجريم وتحريم وسجن وتعذيب للمؤلف واعتقال شقيقه الدكتور محسن جاسم الموسوي (أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك) قد حذفت في الطبعة المزيفة (الفصل السابع) من الكتاب، وبما أنَّ الحديث جر الى ظروف تقديم مسودة الكتاب الى وزارة الثقافة والإعلام لإجازته، فوجب المرور سريعاً على تلك الظروف بنقاط:
أولاً: رفضت الوزارة إجازة الكتاب وأحالته الى وزارة الأوقاف.
ثانياً: قام الدكتور الموسوي بتسليم مخطوطة الكتاب الى صديق المؤلف الدكتور سهيل ادريس رحمه الله صاحب دار الآداب البيروتية عندما كان الأخير في زيارة الى بغداد، وبعد عودة الدكتور ادريس الى لبنان طبع ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب وأرسل ثلاث نسخ الى المؤلف في حينها.
ثالثاً: كتب السيد جاسم مقالاً مطولاً بحلقتين في جريدة العراق عام 1988 ينتقد فيه دكاكين الرقابة بسبب عدم إجازة طبع الكتاب، وذلك قبل حبسه مع شقيقه في مديرية أمن الرصافة الكائنة في بارك السعدون خلف وزارة التربية.
رابعاً: وصلت المعلومات الى مدير المخابرات حينذاك فاضل البراك، وكتب الى صدام تقريراً سيئاً أراد به القضاء على الشقيقين مرة والى الأبد كما يؤرخ لذلك الدكتور الموسوي، والسبب مشكلات شخصيَّة بينهما، محورها إمرأة دكتورة أصبحت في ما بعد عميدة كلية الإعلام في جامعة بغداد حتى فترة قصيرة بعد سقوط صدام ونظامه في 2003.
خامساً: أرسلت السلطات (بتوجيهات من صدام) الراحل صباح سلمان بصفته مديراً للدار الوطنيَّة الى بيروت لشراء جميع نسخ الكتاب الذي لا يزال في المطبعة ولم يوزع بعد! على وجه السرعة تم شراء النسخ بالعملة الصعبة عام (1988) وأخذ تعهد من الناشر بعدم طباعة الكتاب مرة أخرى. يراجع كتابي (عزيز السيد جاسم.. رحلة الى البقاء) ص 117.
سادساً: تم اعتقال السيد جاسم مع شقيقه كل على انفراد بعد منتصف الليل باليوم الذي وصلت إليه نسخ الكتاب! ما يحيلنا الى مدى انشغال المؤسسة الأمنيَّة و(المخابراتيَّة) بالمؤلف وكتابه، في ظروف تستوجب صب الجهد على قضايا أخرى أكثر حساسيَّة على الدول. وهنا يستوجب الانتباه لحجم المؤامرة والخسة في محاربة كاتب أعزل إلا من قلمه وضميره.
سابعاً: مورس التعذيب والضغط النفسي على المؤلف وشقيقه، وتم حبس كل منهما في زنزانة انفراديَّة، كانا يسمعان أصوات تعذيب الآخرين التي سرعان ما تخفت بين انهيار وإغماء وبين وفاة!.
ثامناً: كان عزيز السيد جاسم يعاني من الأمراض المعروفة لدى المفكرين والكتاب، وكان السكري قد أخذ منه مأخذاً، وهو لم يزل بعمر (47) عاماً حينذاك، ولم ينفع التقرير الذي رفعه البراك مستنداً للجنة شكلها هو من ثلاثة خبراء وجدوا في الكتاب ما يؤثر في الأمن القومي؟! استجابة لرغبة البراك، رغم طباعته في لبنان وليس في العراق.
تاسعاً: كانت أوامر صدام بالعمل على تحريف نسخة الكتاب ويؤلف معها ثلاثة كتب أخرى عن الخلفاء، أبو بكر وعمر وعثمان، وكتاب آخر عنه!.وبدون ذلك لا خروج من السجن، والرفض يعني الإعدام كما هو معروف. كانت العقول الرجعيَّة تحاول تصوير الكتابة عن علي (ع) بأنها كتابة طائفيَّة؟! وليست عن رمز إسلامي شامخ، وشخصيَّة لها وقعها في التاريخ العربي والإسلامي وحتى الغربي.
عاشراً: أقدم عزيز السيد جاسم على الانتحار بتناول ما جمعه من أدوية كان الطبيب يزوده بها وخبأها في جيب سترته الداخلي، وكان ما كان في سبيل الخلاص من تلك الصفقة الدنيئة التي تحاول تحويل المفكرين الى أدوات بيد السلطة، وهو ما أشار إليه أيضاً ـ أي السيد جاسم ـ بوضوح في روايته الأخيرة (المفتون)، تمت طباعتها مؤخراً 2020 عن دار الشؤون الثقافيَّة.
لكنَّ المسؤولين على مديريَّة الأمن تلاحقوا الموقف وأرسِلَ السيد مسعفاً الى المستشفى العسكري، وتمت معالجته وإعادته سالماً الى السجن، هنا جاءت الأوامر بتخفيف الحبس ونقل الشقيقين الى غرفة مشتركة، وجراء ضغوط أسريَّة كبيرة ومن الدكتور الموسوي خشية عليه وما أصابه من حالة انهيار كونه للمرة الأولى يدخل فيها المعتقل على عكس السيد الذي له خمس تجارب على الأقل من الحكم الملكي وصولاً الى الجمهوري، فتم ما أجبر عليه مضطراً. لكنَّ الكتاب ظهر بطبعته الأصليَّة كون هناك نسخ سربها المرحوم سهيل ادريس قبل وصول المبعوث الحكومي العراقي، وطبع الكتاب في بيروت واعتمده حزب الله اللبناني باهتمام، كما أعاد رئيس الوزراء العراقي الحالي الأستاذ مصطفى الكاظمي طبعتين، ولنقرأ ما يقوله الأستاذ الكاظمي في حوار لمجلة شناشيل (العدد الثاني):((في إحدى زياراتي الى القاهرة وجدت كتاب (علي سلطة الحق) فقرأته وهو مطبوع بشكل أنيق وحينما أكملت قراءة الكتاب وجدته يختلف تماماً عن طبعة بغداد فعرفت حينها أنَّ المخابرات العراقيَّة عملت على تزوير الكتاب الأصلي الذي تسبب باعتقال ومن ثم اختفاء المفكر العراقي الكبير عزيز السيد جاسم، وقمت بجمع التبرعات من مجموعة من الأصدقاء والمثقفين في المنفى وطبعنا الكتاب في بيروت وتم توزيعه بين مجموعة من الشخصيات العالميَّة ومنهم السيد رئيس الطائفة الإسماعيليَّة في العالم الاغا كريم خان وقد أعجب كثيراً بالكتاب، علما أنه يجيد القراءة بالعربيَّة والفرنسيَّة والانكليزيَّة ووعدني بأنه سيقوم بترجمة الكتاب الى اللغتين الفرنسيَّة والانكليزيَّة، وخلال أحد المؤتمرات التي اجتمع فيها الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين في اسبانيا وأوروبا سألني أكثر من باحث بشأن كتاب (علي سلطة الحق) وتم الاتفاق على طبع الكتاب في بيروت للمرة الثانية، ما أثار اهتمام الكثير من المفكرين والباحثين).بعد هذه التجربة المرة عاش المفكر في غربة واغتراب والتجأ الى التصوف والانعزال وساءت حالته الصحيَّة والنفسيَّة وصولاً الى عودة المواجهة مع أوامر صدام، لكنه هذه المرة رفضها بشكلٍ مباشر، ومنها الكتابة عنه (أي صدام ــ وجدليَّة العلاقة مع صلاح الدين الأيوبي) وهو ما شهد به المترجم الأستاذ خضير اللامي وكتبه في الصفحة الأولى من جريدة الصباح في 30 / 7 / 2005، العدد 614 ونشرته في كتابي سالف الذكر، كونه كُلف بإيصال الأمر الى السيد جاسم بطلب من مدير دائرته (دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة) التي كان يديرها الدكتور الموسوي الذي أمر بتوصيل الأمر الى شقيقه، والأمر الآخر، ما صرح به السيد جاسم في شارع المتنبي وسمعه البعض منتقداً اكتساح الكويت، ودخول العراق في النفق المظلم، (وأتذكر حين كنت صغيراً، كنا نقطع نبتة الخباز التي تنمو طبيعياً في حديقة منزلنا بسبب تأثيرها في سقي الحديقة، قال: سيأتي يومٌ تأكلون فيه هذا، نحن أسرته) وكنا نرمي الخباز وقتها حيث لم يكن معهوداً تناوله في حينها. وأمرٌ ثالث جاء به السكرتير الصحفي لصدام في آذار عام 1991 والإيعاز بالكتابة ضد أهل الجنوب والتشكيك بأصولهم العربيَّة والإساءة لهم، فرفض السيد جاسم الأمر وكتب رداً على المقالات التي ظهرت في جريدة الثورة التي حملت تلك الإساءات، وبعد ذلك بأيامٍ قليلة تم تغييب المفكر عزيز السيد جاسم في عشية عيد الفطر الموافق 15 من نيسان عام 1991.
عودة لسلطة الحق
وعن سياسة الإمام وطريقته في قيادة الأمة الإسلاميَّة وتطابقه مع الجذور الأولى وما غرفه من الدوحة المحمديَّة يقول المؤلف: ((كان علي بن ابي طالب يقيم سلطة مثاليَّة، هي أقرب الى (اليوتوبيا) التي حلم بها ـ في ما بعد ـ اشتراكيو أوروبا الذين كانت فكرة إنقاذ الإنسانيَّة عن طريق (الجمهورية الفاضلة) الفكرة التي نذروا أنفسهم لها ومن ثم اشتهروا بها.
ولم تكن سلطة علي تكويناً سياسياً قائماً من وحي الساعة، بعد اختياره خليفة للمسلمين، بل هي محصلة مؤكدة لأفكار عن السلطة ودورها في تجسيد مصالح المسلمين ومجتمعات الدولة الإسلاميَّة بالحق والعدل والإنصاف.
إنَّ تكامل رؤية علي بن ابي طالب ليس مجرد تكامل نظري، مسطر في مبادئ إسلاميَّة كان مشتهراً بها، بل هو تكاملٌ نظريٌ مصحوبٌ بطرائق سياسيَّة، وبممارسات لا تنفصل عن تصوراته في طبيعة السلطة، ونوع مهماتها، ويمكن إحالة موقف علي من سلطته إلى الأصول الأساسيَّة في ذلك، أي الى الجذور.
وتلخص الجذور، واستمراريَّة الموقف الى نتيجته الأخيرة، مقولة واحدة هي: زهد علي بالسلطة مع إصراره على حقه فيها.
والحق إنَّ زهده بالسلطة هو واحدٌ من التعبيرات الرئيسة عن طبيعته الزاهدة إلا أنه ـ مع ذلك ـ لا يمكن التقليل من فاعلية إدراكه لدور السلطة في بناء المجتمع الإسلامي.
إنَّ ثنائيَّة الزهد بالسلطة، والإقرار بالأهمية الكبرى لدورها، هي الثنائيَّة التي كانت تجابه تصلبات حادة معبرة عن مصالح رأسماليَّة السلطة وبيروقراطيتها، ولم تكن تلك التصلبات المناوئة لتصوراته وطرائقه في بناء السلطة وحدها التي تجابهه، فقد كان أنصاره يتمنون أنْ يستبدل الحمار الذي يركبه في أسواق الكوفة، بجواد بجواد مطَهَّمَ.
كانت تستهويهم الأبهة المنتشرة، وتجرف أحاسيس العديد منهم، لا سيما أنَّ أنموذج معاوية بن أبي سفيان في طرازه الكسروي أو الهرقلي كان يثير دهشة البدو وإعجابهم، وخاصة في المناطق التي تحاد الشام)).
وتبرز مزيات الزهد بالسلطة، والحنكة، والحق والعدل والإنصاف التي يتمتع بها ابن ابي طالب، كرسائل لمن يريد نهج السلطة الحقة والتطلع للاقتداء بها، مقابل وجود نماذج أخرى تمثل (في وقتها والى أبعد من ذلك) أنموذج المتسلط المتجبر، الدكتاتور، القمعي، الشكلي الذي يمارس أفعالاً بعيدة كل البعد عن القيم الإسلامية التي ارسخها الرسول وأودعها في خليفته وزوج ابنته ووالد خيرة أحفاده الحسن والحسين عليهما السلام.
وظل الاعتقاد السائد لدى أشباه المثقفين بأنّ الكتاب يرمز الى الطائفيّة التعصبيّة للمذهب الشيعي على وجه الخصوص، وبالحقيقة إنّ ذلك الرأي مردودٌ على أصحابه ويعكس مدى خوار دواخلهم الثقافية وعدم تمكنهم من الارتقاء بالمستوى المعرفي والفكري الذي تخامر مع أسلوب المؤلف وطريقته في عرض الحقائق التاريخية وتطبيقاتها على الحاضر الذي يرى عزيز السيد جاسم فيه ضرورة قصوى في أنْ يتسلح المفكرون والأدباء بجذورهم الأولى للانطلاق نحو المعارف العالميَّة الأخرى ومن ثم طرح المقاييس والمقاربات والتوصل الى الدلائل والإفرازات التي تضع نتاجات كل مرحلة بما هي وكما هي عليها من دون تنميق وتزويق.
رفض البيعة من وراء رتاج
حين وافى الرسول الكريم أجله المحتوم، كانت اهتمامات الناس منصبة في اختيار الشخص الذي يخلفه في حكم المسلمين وقيادتهم.
ولم يكن علي بن ابي طالب بعيداً عن دائرة الاختيار، فتقدم ابو سفيان وهو في دار الرسول مبايعاً إياه، قائلاً: (يا أبا الحسن.. هذا محمد قد قضى إلى ربه، وهذا تراثه لم يخرج عنكم فابسط يدك أبايعك فإنك لها أهل).
وكان علي يدرك تماماً اللعبة السياسية التي سوف تدور في فلك المسلمين بعد أنْ فقدوا الرسول، فكان جوابه:
(يا أبا حنظلة، هذا أمر ليس يُخشى عليه..).
وكان عمه العباس مؤيداً رأي أبي سفيان شيخ بني أمية، فقال له: (يا أبن اخي.. هذا شيخ قريش قد أقبل فامدد يدك أبايعك ويبايعك معي.. فإنا إنْ بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك عبد مناف لم يختلف عليك قرشي، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد في العرب).
كان علي بن ابي طالب يكره المناورات السياسيَّة، وبخاصة تلك التي تجري من وراء ظهر الناس بين أفراد مشهورين في مكانتهم السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، فيتريث برهة يفكر: هذا حقاً منطق الرجل النهاز ـ يقصد أبا سفيان ـ الذي تعنيه الغاية ولا تعنيه الوسيلة، وكان هو غير ذاك، إنه ليعلم انه للبيعة أهل ولكنه يرى لزاماً عليه أنْ يتخير الوسيلة الصالحة الى هدفه.وهز الإمام رأسه لهما وهو يقول بالمأثور من صراحته وشدة التزامه نهجه الأمثل:
(لا والله يا عم! فإني أحب أنْ أصحر بها، وأكره أنْ أبايع من وراء رتاج)!.
وليس علي من نوع الزعماء الذين يعللون الناس بالأماني، فها هو يصدمهم منذ اللحظة الأولى وإذ اشتد إصرار المسلمين على البيعة، فإنه يكرر من جديد رفض البيعة من وراء رتاج، وكأنَّ ذلك اليوم الذي عرض فيه (أبو سفيان) عليه البيعة في دار الرسول (ص) وجسده الكريم مسجى هناك يعيد نفسه، ولكن من غير أبي سفيان ولا ذرية أبي سفيان. بحسب المؤلف الذي يضيف: إنَّ تكرار الموقف رغم تبدل الزمان والمكان، بالصورة نفسها، أو بما يماثلها أو يقارنها بالقياس هو صفة إنسان متحد بذاته وبأفكاره اتحاد الملآن الواثق من نفسه، ومتوحد في تلك الفرادة الإنسانية العالية.
ليس هناك دهاليز وارتجة، بل ينبغي أنْ تكون البيعة علنيَّة، ديمقراطية، وفي المسجد، بعيداً عن الضغط والابتزاز.والتساؤلات هنا كثيرة في مغزى العبرة والرسائل التي يوصلها المؤلف عبر تتبعاته لسيرة ونهج الإمام، وهل يحق التساؤل عن طبيعة اختيار الخليفة أو القائد أو الرئيس في العهود الحديثة؟ وهل تشمل الرسائل ما تشمل في طياتها ما يرمز لذلك؟ وإذا ما رجعنا الى المقدمة وورود ذكر العصور والأزمنة والملكيَّة والجمهوريَّة والدينيَّة، سنجد الإجابة واضحة.
فالكتاب يضم أحد عشر فصلاً من مشيئة الرب والاصطفاء والشجاعة وحرب صفين والسياسة العسكريَّة وتاريخ لأوليات سياسيَّة وسلطة العقل والعدل وصولاً الى الفصل الأخير المعني بالنص والبلاغة، جميعها كتبت ضمن ذلك السياق والاسلوب السردي المتداخل المسند بالتوثيق والمصادر لعشرات الكتب والمراجع المعتمدة لدى أهل السنة في أغلبها العام! فكيف يكون الكتاب طائفياً؟.
إنَّ نشأة الإمام في حضن النبي (ص) وفي أجواء الوحي، وتشربه من ثقافة القرآن، وتتلمذه التام على يد الرسول، عوامل حاسمة في تكوين شخصيته المتماسكة، وما كان ممكناً أنْ يكون مدرسة التاريخ في التربية لولا انه كان المربي القدوة، الذي شمل الناس بالحكمة الفاعلة، وهي الحكمة التي تختلف عن الحكمة السائرة، التي عبر عنها وعاش لها حكماء كبار مثل كونفوشيوس
وسواه.
ذلك لأنَّ علياً بن ابي طالب كان في خياره الوحيد حكيماً، قائداً، مكافحاً، حمل لواء النضال ضد الظلم، ومن أجل سيادة العدل، فقرن الحكمة بالتطبيق، والرأي بالفعاليَّة، لم يخدعه سلطان، ولم تسحبه الحكمة السلبيَّة الى أجوائها.
إنه العالم والأديب والفقيه والمشرع والقائد والباحث والمجاهد والقاضي والزاهد والمقاتل ورجل السلم، الأنموذج في كل شيء، والمتحد الصفات القولية والفعلية في كل شيء. إنه شعلة الحق التي
ستبقى متقدة أمد الدهر.