كمّامات الفقراء

آراء 2020/05/16
...

حسن جوان
منذ وقت مبكر جداً، وقبل أن تعلن وزارة الصحة تحذيراتها الحاسمة للوقاية من وباء قادم نحو البلاد، شهدت مذاخر الادوية والصيدليات في غالب مناطق بغداد نضوباً مفاجئاً وشحا في توفير مختلف أنواع الكمّامات الطبية وغير الطبية. 
ولم تنجح تلك المذاخر والصيدليات لاحقاً سوى بتوفير أنواع رديئة لا تصلح لغير الوقاية من الغبار بيعت مع ذلك بأسعار مضاعفة لعدة اضعاف على أنّها كمامات صحية.
خرجت علينا مع تفاقم الوضع الوبائي موضات والوان مثيرة للسخرية والاستغلال وصلت الى حدّ تفصيل مستخرج من بقايا جواريب او ملابس داخلية.
مع ذلك بقي التساؤل الأكثر الحاحاً مؤجلاً حول اختفاء الكمّامات الى حين بلوغ الحظر الكلي والجزئي مديات انذرت بخطر تفشٍ وبائي وشيك، في حين لا تظهر تلك الكمامات الاصلية الفاخرة المختفية لا على وجوه المارّة ولا لدى الصيدليات. 
فالنسبة الاجمالية لمستخدمي الوقاية في الشارع لا تتجاوز العشرة بالمئة في افضل التقديرات، في حين بقي جلّ الفقراء ممن لا يستطيعون شراء الكمامات الباهظة الثمن لافراد اسرهم وبقوا بلا وقاية.
ولا ننسى ايضاً ان رجال حفظ الامن بصنوفهم لم يزوّدوا بكمامات إلا بعد مضي أسابيع وهم الفئة الأكثر اختلاطاً بأعداد مختلفة من العابرين على الحواجز والسيطرات المنظمة لقرارات الحظر.
لم يحظ المواطن العراقي بارشادات مناسبة لاستعمال الإجراءات الوقائية الصحية المطلوبة في هذا الظرف، ولا بتعليمات بشأن  الأدوات الوقائية الأساسية  التي يحتاجها نوعاً او كمّاً، ناهيك عن التقصير الواضح في توفيرها من قبل وزارة الصحة التي لم ترفد المواطن الفقير غير القادر على مجاراة الأسعار الفاحشة للكمامات والكحول الطبي لا من مذاخرها ولا من حصص المساعدات الدولية التي اختفت بدورها.  مجمل ما حصل عليه  المواطن العراقي من تعليمات وتوضيحات دقيقة بعد فوضى المعلومات في الأسابيع الأولى انما حصل عليه من مواقع عربية او عالمية او عبر مواقع التواصل الاجتماعي مختلط المصادر.
كل هذا وسط غياب الرقابة على المواد الطبية المباعة في الصيدليات التي تنوعت بين تدليس المنتوج مثل الكمّامات غير الطبية، وبين الكحول المغشوش المخلوط بالماء بنسب يفقده فاعليته كليّاً في مواجهة أي فيروس.
لقد استغلت حتى الدكاكين الصغيرة أنواع الديتول والكحول المخلوط بالصابون المعطر لبيعه للفقير على انه يقضي على الفيروسات بالكامل، ولم يصدر حتى بيان واحد توضيحي من جهة مسؤولة يوضح الخلط بين الديتول المعقم المضاد للبكتيريا النافعة والضارة معاً وبين الكحول المضاد للفيروسات بنسب مقبولة ومؤقتة لحين تمكّن الشخص من غسل يديه بالماء والصابون بصورة مؤكدة لعدة مرّات. 
كان تعبير تكميم الافواه مجازاً لغوياً يعبّر عن مصادره الحريات بالكلام والتعبير عن الرأي المخالف للسلطة الجائرة، وكان يشمل الجميع في السلم والحرب.
أمّا في وقت الجائحة الوبائية الحالية اصبح التعبير واقعياً لا مجازياً، وفضيلة لحفظ حياة الافراد، لكنها فضيلة لن ينالها الفقراء من دون مقابل، لانّ افواه الفقراء لا تكمّم في بلداننا مجّاناً سوى أيام السلم.