أكاذيب الكبار

الصفحة الاخيرة 2020/05/19
...

حسن العاني 
 
شئنا أم أبينا، فمسيرة العمر هي التي ترسم المراحل وتتحكم بها ، من دون ان تكون لنا القدرة على التصرف أو التغيير، وهكذا فإن الكلمة النافذة للمسيرة، هي التي تضعنا في مرحلة الطفولة مثلاً أو المراهقة أو الشباب ..الخ، ومن حيث لا أدري ولا اريد وجدت نفسي شيخاً عجوزاً، ينام ويصحو على متاعب السنين، وله من الذرية فصيل من الاحفاد، تختلط عليه اسماؤهم احياناً، وكان أقربهم الى مزاجي (الحارث)، ابن العاشرة ، فهو شديد الفطنة والذكاء والظرافة، ولكنه في الوقت نفسه لجوج ملحاح كثير الاسئلة... وكان يجبرني على ان اروي له حكاية كل ليلة قبل الذهاب الى فراشه.. وهو امر متعب 
بالتأكيد!! .
مرة رويت له حكاية قديمة ومعروفة لجيل الكبار، ومفادها أن تلميذاً تشاجر مع احد زملائه، فعيره بوالده قائلاً : (ابن الحرامي! ) ، وحين عاد التلميذ الى البيت كانت مفردة (الحرامي) ترن في اذنه، فسأل والده وهو يبكي ان كانت تهمة الحرامي صحيحة، وهل البيت الذي تملكه الاسرة والسيارة والاموال واغراض المنزل الفاخرة، جاءت عن طريق 
السرقة؟!.
صمت الاب قليلاً ثم طلب من ابنه قلماً وورقة، وبعد ان احضرهما قال له:  (اكتب كلمة حرامي)، ونفذ الولد طلب والده، وهو لا يفقه من الامر شيئاً، ولا يعرف ماذا يعني ذلك، وهل هي لعبة؟ عندها مدّ الاب يده في جيبه، واخرج عملة من فئة (100) دولار ووضعها فوق الورقة، وغطى بها مفردة (حرامي) ثم سأل ابنه:  (الآن.. هل ترى الحرامي؟)، ردّ عليه (لا)، وسأله من جديد (ماذا ترى إذن؟)، اجابه (أرى 100 دولار فقط!! )، في تلك اللحظة شعر الاب بالارتياح، وطبطب على ظهر ولده وقال:  (الناس لا ترى الا ما يظهر امام عينيها.. 
أنا المئة دولار التي تراها أنت يا ولدي، ويراها الاخرون، أما الحرامي الذي يتحدثون عنه فلا احد يراه ، ولا احد يعرفه!! )، ضحك التلميذ فرحاً ، ومن يومها ما عاد يعير بالاً لشتائم زملائه!!.
لحظة انتهائي من الحكاية سألني الحارث:  (ولكن ماذا عن الشرف والنزاهة والامانة؟)، قلت له: (الشيء المهم هو المئة دولار)، وسألني من جديد:  (والحرامي؟)، قلت له:  (اختفى تحت الورقة النقدية)، غير انه على عادته اليومية انهال عليّ بوابل من الاسئلة، بعضها لا يصلح للنشر ، وبعضها جعلني اخاف عليه وعلى نفسي، وبعضها لا امتلك جواباً له، ولكن اخطر الاسئلة كان:  
(ألا تعتقد ان رائحة الدولارات تكشف الحرامي وتفضحه، أكثر مما تخفيه؟! )، ولهذا قمت بحركة تمثيلية ، إذ تمارضت واردت الذهاب الى فراشي، إلا انه ادرك حيلتي وقال لي وابتسامة خبيثة على وجهه:  (جدو آني اعرف كل شي ما بيك ، وجوابك غلط ، والدولار ميغطي الحرامي.. بس روح نام نومة العوافي!! ).. جيل ملعون لا تنطلي عليه حتى أكاذيب الكبار!! .