ثنائية الوجود والعدم في الفيلم السوري {حنين الذاكرة}

الصفحة الاخيرة 2020/05/20
...

د. عمار إبراهيم الياسري
 

أتاحت المؤسسة العامة للسينما السورية المشاهدة المؤقتة عبر الفضاء الافتراضي لفيلم حنين الذاكرة ، وقد شهد المبنى الحكائي أزمنة حياتية مفتتة من حياة  كفاح  أعيد تركيبها في أربع حكايات شيدتها بنية واحدة تناوب على إخراجها  يزن أنزو وعلي الماغوط وسيمون صفية و كوثر معراوي، تناولت الحكاية الفيلمية الأولى المعنونة بـ "المفتاح "للمخرج  يزن أنزور ولادة  كفاح مع نكسة حزيران عام 1967 التي ألقت بظلالها على أسرته النازحة من الجولان بعد الاحتلال الإسرائيلي لتقطن في بيت دمشقي مع عائلات مختلفة، أما الحكاية الثانية المعنونة  "رقص شرقي" للمخرج علي الماغوط
تناولت نزوح عائلة من بيروت أبان الحرب في ثمانينيات القرن المنصرم ليعيش  كفاح  معها تجربة اكتشاف مشاعر الجسد، في حين كشفت الحكاية للثالثة للمخرج  سيمون صفية  والمعنونة بـ" لا أحب اللون الأحمر" إسقاطات غزو الكويت على عائلة فلسطينية مما اجبرها إلى مغادرة الكويت نحو دمشق والسكن مع باقي العائلات ، بينما تناولت الحكاية الرابعة  "العودة" للمخرجة كوثر معراوي المتغيرات السياسية بعد احتلال بغداد وسقوط نظامها الدكتاتوري ومن ثم نشوء التنظيم الإرهابي "داعش" الذي قام بقصف البيت بقذائف الهاون في 
النهاية .
وقد وظفت ثنائية الوجود والعدم في الفيلم بشكل متسق مع عناصر اللغة السينمائية حينما عمد صانعو الفيلم إلى تأطيرها دلالياً من أجل تفعيل ساردية المتلقي بشكل يجعل من مدركاته الذهنية تشتغل على ربط الدلالة بمدلولها الذهني من أجل تحقيق أبهى تجليات التلقي، ففي نسق التصوير كانت دلالات الصور المقلوبة تشي بالاغتراب الوجودي الكبير الذي تعيشه الشخصيات كما في لقطة الأب المتوسطة في الجزء الأول ولقطة الأخت المتوسطة في الجزء الثاني، أما الإكسسوارات وقطع الأثاث فقد وظفت دلالياً هي الأخرى في الأجزاء الأربعة، فقد اختزلت الساعة العاطلة حياتنا المعطلة بسبب الحروب والنزوح والفرقة بين الدول العربية والقماشة الحمراء التي بينت القهر الروحي والجسدي الذي تتعرض له الذات الإنسانية بسبب الحروب والقهر المجتمعي في الجزء الثالث، فيما كانت لقطة سقوط القلم دلالة على عدم قيمة العلم وسط عالم أضحى فيه الإنسان سلعة بائرة وكذلك مشهد التحول الذي شهدته يافطة المكتبة من مكتبة كلكامش الى ملحمة كلكامش دلالة على شيوع شريعة الغاب في جزء المخرجة معراوي، أما نسق الصوت والموسيقى فقد عضد من الاستلاب الذي تعيشه الشخصيات ففي الجزء الثاني كانت الموسيقى معادلاً بصرياً حينما رافقت الأخت في مشهد الحمام وهي تبحث عن أنوثتها المستلبة، في حين كانت الأصوات اللامتزامنة تختزل الكثير من دلالات القلق من خلال تشظيها عن الجسد حينما وصفت الفتاة اللبنانية التظاهرات العربية المبتهجة بفوز الجزائر على ألمانيا بكرة القدم بشكل تهكمي ساخر.
على الرغم من كل دلالات القهر والاستلاب والاغتراب التي تجسدت في الأنساق السمعبصرية التي مر ذكرها مشكلة بنية قارة تشي بالفناء ، ألا أن بنية الوجود تمظهرت بشكل مائز مخلخلة بنية الفناء، وهذا ما تجسد في مشاهد عديدة منها في الجزء الأول مثل مشهد طيران طائرة الهليكوبتر أعلى البيت وهي ترمي القصاصات الورقية ثم الانتقال مباشرة إلى الطائرات المقاتلة زمن الحرب والمشهد الذي أعطى فيه الصبي البندقية للفتاة بعد أن غادرت أسرتها البيت وعادت إلى بلدتها إذ نلحظ أن البندقية أصبحت دلالة مرجئة حسب (جاك دريدا) ثم تجلى أثرها الدلالي في الجزء الثاني حينما ذهب كفاح) إلى معسكر التدريب من اجل الانخراط في المقاومة مما جعل من بنية الوجود متسيدة دون بنية العدم في نظام شكلي ضابط قوامه الأثروتمظهر العلامة والحال ذاته في مشهد القلم الذي كان يشي بالدور الكبير للعلم في إدامة الصمود حينما أعطي لـكفاح في المعسكر، فيما كان الرقص في مشاهد كفاح سواء تحت المطر في دلالة على أن الأرض المجدبة في داخله ستنمو وتتشح بالخصب والنماء أم وحده أعلى البيت متشحاً بالشال دلالة على الانعتاق من القيود التي تكبله يشي بتسيد بنية الوجود مرة أخرى في تشكيلية المشهد البصري في الجزء الثاني، في حين كانت الأردية المتشابهة دلالة على وحدة الموقف وكذلك حوارات البطلة غير المتزامنة تحيلنا إلى فجر جديد في الجزء الثالث ، أما المشهد الذي وصف فيه كفاح أبنته الصغيرة حينما كان يردد بصوت لا متزامن (طفلتنا الصغيرة إشارة الاستفهام الخجولة في وجه بشاعة الواقع ولا معقوليته) هو المهاد البصري لمشهد بقاء الطفلة على قيد الحياة المرتبط بالعودة ، ويعد البؤرة المركزية والمشهد الملزم الذي خلخل بنية العدم في الجزء الرابع للمخرجة معراوي، فالفيلم السينمائي هو حراك أنساق متداخلة ضمن ثنائيات متضادة في نظام دقيق جداً كما يذهب دعاة البنيوية إلى ذلك وهذا ما تجسد في الفيلم السوري حنين 
الذاكرة.