جواد علي كسّار
لأنني أعتقد أن المعايشة تمنحني رؤية للمشهد أعمق وأكثر حيوية وأقرب إلى الواقع، من تلك التي تقتصر على المعلومة والقراءة وحدها، فقد استعنتُ بأحد الأصدقاء لفهم ما يجري الآن في اميركا، خاصة وأن هذا الصديق مقيم في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، متفرّغ للعمل الفكري والنشاط المعرفي، غزير في الكتابة كثير الظهور في وسائل الإعلام.ما أثار استغرابي في تداعيات مقتل الشاب الأسود جورج فلويد قبل أيام، ليس فقط أعمال العنف الاجتماعي ونهب المتاجر وتخريب المنشآت، الذي ساد مدينة مينيا بوليس حيث قُتل الشاب الأسود، بل تكرّر السيناريو نفسه، على نحو ممل وثقيل بحرفيته، وبالخطوات ذاتها دون تغيير، وهذا ما أثار حيرتي وسؤالي، ودفعني لمحاورة أكثر من صديق يعيش في اميركا، أو قريب من واقعها الحياتي والثقافي.
بمراجعة بسيطة لأرشيفي الخاص، وجدتُ أن أعمال العنف والتخريب والنهب التي اجتاحت لوس انجليس عام 1992م، حصلت بفعل اعتداء الشرطة على المواطن الأسود رودني كينج، حتى اشتهرت انتفاضة لوس انجليس الاجتماعية الاحتجاجية، بحوادث رودني كينج، بعد أن سُرّب الشريط المصوّر الذي أظهر قساوة اعتداء الشرطة على رودني!
مثلُ ذلك ما حصل تماماً في لويزيانا عام 2014م بقتل الشرطة للمواطن الأسود ألتون ستيرلينغ، والأهمّ من ذلك كيف تطوّرت واقعة إطلاق الشرطة النار على المواطن الأسود مايكل براون، إلى أعمال احتجاجية في فيرغسون ميسوري، ترافقت كسابقاتها مع أعمال عنف وسطو وتخريب. بالخطوات نفسها اشتعلت الاضطرابات في ميسوري عام 2015م، بعد أن اعتقلت الشرطة الشاب المراهق الأسود فريدي جراي، وإصابته بعموده الفقري على نحو قاتل أودى بحياته بعد أسبوع من الاعتقال. وهو ما حصل تماماً دون انقطاع قبل ذلك وبعده، بلوغاً إلى مقتل المواطن الأسود جورج فلويد خنقاً وبقسوة تحت ضغط ركبة الشرطيّ الأبيض، واشتعال انتفاضة مينيا بوليس التي ما زالت تداعياتها مستمرّة. باختصار شديد يتكرّر السيناريو نفسه وبالحلقات ذاتها؛ الشرطة تقتل مواطناً أسود على نحو فجيع وقاسٍ، غالباً بذريعة المطاردة تحت تهمة المخدرات أو السرقة، يصوّر الفعل المشين، ثمّ ينتشر، ليتحرّك الرأي العام وينفجر في نطاق ثلاثية العنف والتخريب والسطو! نتحدّث هنا عن الحوادث المشهورة، وإلا فإن أي مراجعة مهما كانت بسيطة، فهي تدلّ على أن تأريخ اميركا لم يتحرّر قط من هذه الممارسات، حتى أذهلني أحد الدارسين الأميركان للظاهرة، بمعلومة أفاد فيها أن الحياة في القارة الاميركية تشهد يومياً مقتل ثلاثة مواطنين سود بفعل تجاوزات الشرطة وحوادث التمييز العنصري، لتكون الحصيلة أكثر من ألف ضحية خلال السنة الواحدة!المحيّر أن ذلك يحصل وسط مفارقات عجيبة، منها أن نسبة الشرطة السود تبلغ الآن 40 ٪ من الشرطة في اميركا، وأن قيادات سياسية سوداء وصلت مواقع مهمة في الإدارة الاميركية كما حصل مع كولن باول وكوندا ليزا رايس، قبل أن يتوّج ذلك بالرئيس الرابع والأربعين لاميركا باراك أوباما! لماذا يحصل ذلك إذن ويتكرّر بالسيناريو نفسه؛ هل هو الغباء في دولة مراكز الفكر، أو العناد في دولة المؤسّسات، أم هي الأزمة في الأنموذج السياسي للدولة الاميركية، والخلل في فلسفتها القيمية والأخلاقية وفي السياسة والاجتماع؟ بعد نقاش مع صديقي الكاتب المقيم في اميركا، طاف يميناً وشمالاً، انتهى للقول نصاً: اميركا بئر عميقة من الصعب بلوغ قعرها!