الاختبار الأول الذي واجهه آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق "ميخائيل غورباتشوف" في بداية حكمه، هو إعلان الولايات المتحدة الأميركية عزمها البدء في بناء ما سمي وقتها بـ"مشروع حرب النجوم الستراتيجي" في عهد رئيسها الأسبق "رونالد ريغان"، في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، ولم يعرف لغاية اليوم مدى حقيقة هذا السيناريو المعد بعناية، ولكن المظنون به انه لم يكن سوى بالونٍ دعائي (بروباغاندا) من النوع الثقيل لاختبار ردود فعل الرئيس السوفييتي الجديد، فضلاً عن محاولة قياس قوة استعداد الاقتصاد السوفييتي لمواجهة هذا المشروع.
وبالفعل كانت الصدمة كبيرة، للرئيس الجديد، عندما كانت خزينة الدولة السوفييتية عاجزة على مجاراة قيمة اعتماد المرحلة الأولى من المشروع الأميركي.
في أولى سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، كان وزير خارجية أميركا "جون فوستر دالاس" وبمعية شقيقه "الان فوستر دالاس"، رئيس المخابرات الأميركيَّة، قد وضعا الخطوط العامة لستراتيجيَّة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، بعيداً عن المواجهة العسكريَّة، ومن دون إراقة دماء، إدراكاً منهما بطبيعة الاقتصاد السوفييتي، واحتوائه الكبير على منافذ إنفاق متنوعة، فقد صمما على استدراج الدولة السوفييتية وتوريطها بأكبر تدفق إنفاقي لدفع الاقتصاد نحو حافة
الهاوية.
لقد صمم الأمر ليجري وفق سيناريوهات وخطط وحروب في مناطق مختلفة من العالم، وتنشيط الدعاية الإعلاميَّة، وبالاعتماد على هذه الستراتيجية باشرت أميركا بشن حروب شنعاء ضد فيتنام وكوبا والكثير من بلدان جنوب شرق آسيا وبقية العالم، كان السوفييت يقفون داعمين المعسكر المقاتل لأميركا، وبلغت الأمور في ذروة التأزم والتهديد النووي في قضية (جزيرة الخنازير).
في كتابه (البيروسترويكا) شخص غورباتشوف بدقة عوامل الضعف في الاقصاد ومكامن التباطؤ والهدر فيه، موضحاً أنَّ الإرهاق الذي تعرض له هو جراء الإنفاق المركب الذي يمضي الى ثلاثة مسارات رئيسة هي التسليح العسكري والإنفاق الاجتماعي؛ صحة، تعليم، سكن...الخ، وإنفاق آخر كمساعدات لدول تدور في فلك السياسة السوفييتية وفصائل حركات التحرر في العالم.
لقد كانت مقاربات غورباتشوف في ما يتعلق بحالة الاقتصاد تجانب الصواب، وتلقى قبولاً من لدن المشتغلين في هذا الحقل، فالاقتصاد الذي تتفشى فيه ظاهرة الإنفاق بشكلٍ كبير سيرافقه وبالضرورة تقلصٌ في التراكم الاقتصادي، الضروري كاحتياط في أزمنة الأزمات، أو كادخار لتوظيفه لتنشيط وتوسيع دورة الاستثمار، وهذه القاعدة تنطبق على كل الاقتصادات في العالم على تنوعها.
أما اّلية النظام الرأسمالي في أنموذجه الأميركي، فالدخل القومي الكلي يتكون بنسبة عالية من الضريبة المفروضة على مداخيل وأرباح الشركات والأفراد، لضيق رقعة الدولة في النشاط الاقتصادي، فحتى التسلح فيه يتم بواسطة الشركات العملاقة، وهذه الأخيرة هي خاضعة للضريبة، أما ما يقدم من مساعدات لدول أخرى فيحسب ويسترد بمقايضة استثمار لشركات كبرى تحصل على شروطٍ مريحة ومربحة وتنفع الاقتصاد الرأسمالي بشكلٍ
أساسي.
كتاب (البيروسترويكا) كان يعدّ وثيقة مكاشفة صريحة وسافرة، وخصوصاً في مجال طبيعة الاقتصاد السوفييتي آنذاك عندما لاحت مظاهر ضعفه في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، إذ كان على الاتحاد السوفييتي التزامات دوليَّة يحتمها كونه القوة الثانية في العالم قبالة أميركا، وهما منخرطان في حرب ضروس وإنْ كانت باردة، إذ إنَّ الأمر هو في مدى حقيقة وصدق منظومتين ازاء الطبيعة والتاريخ، وأي خلل في الأداء الاقتصادي سيشكل خطراً داهماً، المعسكر الموالي للإصلاح الجذري كان يرى أنه ما لم يجر ضبط الإنفاق على جميع المحاور المذكورة سابقاً، فهذا يعني أنَّ الدولة السوفييتية في طريقها الى الانهيار والتفكك.
وعندما بوشر بالإصلاح، كان الوقت متأخراً، والمرض الاقتصادي أصبح عضالاً، فانزلقت ثاني أكبر امبراطورية في القرن العشرين وتاهت في رحلة التفكك.
الاقتصاد العراقي ليس امبراطورياً ولا كبيراً، إنما العكس، فهو أحادي، غير منتج، وريعي، تحركه أموال النفط غير المضمونة، وفقاً للأزمات المتعاقبة، فعندما تتفوق موازنته التشغيليَّة على العائد النفطي، حتماً سيلمح هذا الى أنَّ الخزينة في حالة خواء
وإفلاس.
فما أشار إليه السيد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي بخصوص الخواء في موارد الخزينة الماليَّة، قد يكون منهجاً إيجابياً في الصراحة والمكاشفة، لكنَّ الامر يكاد يكون معروفاً لدى عامة الجمهور العراقي العريض الذي بات معتاداً على الأزمات بين مديات زمنيَّة قصيرة ومتعاقبة.
فما لم يجر إصلاحٌ جذري اقتصادي في السياسات والإجراءات ونظام الأولويات، وهذا يختلف عن التصحيح في العجز في الموازنة بواسطة القروض الداخليَّة والخارجيَّة، فالأمور ذاهبة الى المجهول.
أول هذه الإجراءات هو القضاء على الإفراط في منافذ الإنفاق وتشعباته، فالشراهة والإفراط فيه أدى الى تفكك ثاني أكبر قوة في القرن العشرين، فماذا يكون في حالة اقتصاد ريعي يعتوره الفساد؟