عندما تبكي الأسود

الصفحة الاخيرة 2020/06/01
...

عبدالهادي مهودر
 
تزخرُ الحضارة العراقيَّة القديمة بمنحوتات الأسود وتختلف أشكالها لدى السومريين والبابليين وغيرهم، وخص حمورابي الأسود بفقرة قانونيَّة في شريعته، وفي مدخل المتحف العراقي يشمخ تمثالٌ حجريٌ قديم لأسد عراقي، وكذلك تجد الأسود العراقية في متحف برغامون في العاصمة الألمانية الذي يضم آثاراً مهمة من حضارة وادي الرافدين، وتكاد لا تخلو عاصمة من عواصم الدول من تماثيل للأسود تزين ميادينها كما في لندن وروما والقاهرة عند (كوبري قصر النيل) وساحة السباع في بغداد التي شيدها فنان روسي عاش في العراق ونال الجنسيَّة وتم تعيينه كنحات في أمانة العاصمة، لتعطي هذه الأسود انطباعاً بالهيبة والقوة والتوثب، وقد انتهينا أخيراً من قصة أسد صغير نسجت حوله قصة كبيرة وهو (أسد بلدية النجف) وكانت نهاية صادمة مثل نهايات بقية القصص المزيفة التي تختبر المصداقيَّة وتشيع الى حد التصديق ولا ينفع معها نفي أو تكذيب، والمثير للدهشة أنَّ كل قصة مزيفة تتنقل وتمر بحرية وتدور في فلك النشر دورة كاملة بمعظم الصفحات الشخصيَّة حتى يتم اكتشاف زيفها مثل قصة هذا الأسد الذي كتبت عنه خلال يومين حكايات لم تكتب عن أسد بابل، فقد أشيع أنه كلف المحافظة 79 مليون دينار أو دولار، وقيل إنَّ البلدية قامت بعد ذلك بطلائه بلون أبيض بدلاً عن البرونزي وغطت عظامه البارزة وأجرت له عمليات نفخ لخدوده وتقويم لعظامه وتجميل لأسنانه وعينيه (المتزاعلتين)، وسخرت مواقع التواصل الاجتماعي من الأسد الذي غير صورته الشخصيَّة، وضجت الصفحات بهذا الخبر بعد أنْ تم تضخيمه وشحنه وربطه بتداعيات الأزمة المالية وخفض الرواتب وتراجع سعر خام برنت وفتحت الإذاعات خدمة الاتصال المباشر حول هذه الكارثة الوطنيَّة لتلقي ردود المواطنين المتحفزين الغاضبين غضبة الأسود على فنون الفساد والمفسدين.. وتصوروا كيف يمكن أنْ يكون تعليق الموظف المسكين حين تسأله المذيعة: ما تعليقك على تشييد تمثال أسد في بلدية النجف بملايين الدنانير وهو لم يكلف البلدية سوى خمسة أكياس (بورك) وراتبك سيقطع رأس الشهر؟!
وأترك لكم تخيل رد الفعل والعبارات الرهيبة التي أطلقها في الهواء واضطرت معها المذيعة الى الاعتذار من المستمعين الكرام والانتقال الى فاصل توعوي عن جائحة كورونا!
بعد تلك الضجة يكشف مدير بلدية محافظة النجف عن أنَّ مجسم الأسد تم تشييده بمبلغ خمسمئة ألف دينار لا غير وسط مثلث على حافة شارع رئيس ولا يستحق كل تلك الهجمة، وكان من محاسن الصدف أنَّ اسم مدير البلدية هو المهندس (ليث) وهو أحد أسماء الأسود، إذ أكد ليث النجف رخص وبساطة ذلك الأسد العزيز، الذي كسرت كبرياؤه اللايكات والتعليقات الساخرة ونال شهرة لم تنلها مشاريع المدينة وحظي بدعاية مجانية أكبر من حجمه الضئيل آلاف المرات.
الملفت في الأمر إنَّ كثرة الأخبار المزيفة لا تتلاءم وكثرة وتعدد وسائل الإعلام في العراق والتي يفترض أنْ تؤدي كثرتها الى تنافس على كشف الحقائق والانتقال السريع لمواقع الحدث التي تثير الجدل، كما أنَّ الخبر الأول يبقى راسخاً في ذهن المتلقي حتى وإنْ كان كاذباً والنفي لا يأخذ الانتشار والتأثير نفسيهما، فقبل أيام حاججني شخص في (مؤامرة قتل الفريق الطبي الصيني في حادث سيارة مدبر على طريق البصرة) وعبثاً حاولت إقناعه بعدم صحة هذه الرواية ولم يصدق أنّ الفريق الصيني تم توديعه في مطار بغداد (بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم) وبعد أنْ سلموا وزارة الصحة العراقية مختبرات متطورة وغادروا أرض أسود الرافدين الى بلاد التنين سالمين.
وسيبقى خبر ذلك الأسد متميزاً خلال العام 2020، فقد انطبقت عليه نظرية أنَّ الخبر ليس أنْ يعض الأسد إنساناً، فهذا خبر مألوف، وإنما حين يعض الإنسان الأسد وتبكي الأسود، فهذا هو الخبر غير المألوف.