فجرت كلمات الاستغاثة التي نطق بها "جورج فلويد" ذو الأصول الأفريقية - وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أقدام شرطي في مينيابوليس الأميركية- بالون ديموقراطية رأس المال. هذه الديموقراطية القائمة على التدجين بحسب أهواء الملكية الشخصية، تحت مظلة الليبرالية التي تمنح المزيد من الحرية لسلطة رأس المال على حساب خيارات الأفراد وفرصهم في المنافسة، لايبدو انها قادرة على ترويض الأفراد الى ما لا نهاية على الرغم من امتلاكها لأدوات التركيع في ساحة مجتمعية أشبه بحلبة السيرك، ولا يمكن لقوى الأمن الداخلي في دولتها أن تكون منزوعة السلاح كما في نموذج دولة الرفاه القائمة على نظام اقتصاد السوق الاجتماعي في بعض دول الاتحاد الأوروبي، فهذه الأخيرة تنسحر فيها الفجوة الطبقية الى حد ما، بحسب طبيعة النظام الضريبي الذي يحد من تغول سلطة المال على حساب خيارات الأفراد، ومن الواضح ان رغبة التنفس في أوساط الزنوج الأميركيين، لم تكن وليدة لحظة اختناق فلويد تحت أقدام الشرطي، بعد أن كشفت مسارات الأحداث عن كم هائل من التراكمات النفسية الباحثة عن هذه الرغبة، فتبلورت بشرارة أشعلت فتيل الاحتجاجات في ثلاثين مدينة من بينها العاصمة واشنطن متحدية إجراءات حظر التجوال، ما دفع السلطات لنشر الحرس الوطني في العديد من المدن أولها منيابوليس للقيام بالمهمة التي عجزت السلطات المحلية عن القيام بها على حد تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وبنظرة سريعة في التشكيلة المجتمعية القائمة على الهجرة في المجتمع الأميركي، نجد ان جل المهاجرين الأوائل هم من البروتستانت البريطانيين الذي هيمنوا على فرص الملكية، قبل وصول المهاجرين الأفارقة الى أرض العالم الجديد بوصفهم مجاميع رق ليس أكثر، وبهذا كانت الملكية حكرا على البيض، وكان التمييز لعقود حتى بعد اغتيال الزعيم الزنجي "مارتن لوثر كنك" في العام 1968 الذي عرف بنضاله السلمي ضد العنصرية، والذي استطاع أن يمنح الزنوج حق المشاركة في الانتخابات ويؤسس لشراكتهم في المجتمع الأميركي، الا ان التمييز لم ينته في المجتمع الأميركي على الرغم من كل محاولات التدجين الاعلامي وتصوير المجتمع الأميركي بوصفه مجتمعا للتعددية وحقوق الانسان.
وبعد وصول باراك أوباما الى سدة الحكم في العام 2009 عد كثيرون ان رسالة لوثر كنك قد وصلت وان التفرقة العنصرية ذهبت الى غير رجعة، حيث تفاخرت الولايات المتحدة بوصول رجل من أصول أفريقية إلى كرسي الحكم، لا سيما أن بعض الدول الأوروبية لم تعرف زعيما زنجيا برغم كونها من أولى الحاضنات للأفارقة، الا ان لوثة العنصرية بقيت متجذرة وهذا ما كشفت عنها التظاهرات المنددة بها، والتي حملت شعارا "أريد أن أتنفس" لتكون رغبة استنشاق الهواء تعبيرا عن الرفض لسلطة لا تنفك قائمة على التمييز، لأن جوهرها الحرية المطلقة في التملك.
وهذا الشعار برز جليا في التظاهرات المؤيدة للتظاهرات الأميركية ضد العنصرية، التي قادتها الحركات المناهضة لليبرالية الجديدة في كل من لندن وبرلين، الا ان التوظيف المثير للدهشة كان على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينغ التي ردت على انتقادات نظيرتها الأميركية مورغان أورتاغوس بشأن حقوق الإنسان في هونغ كونغ، بثلاث كلمات فقط، قائلة "لا أستطيع التنفس".