ليبيا في مهب الريح

آراء 2020/06/03
...

د. محمد فلحي
 
أول عبارة صدمتني، في اللهجة الليبية، عندما وصلت إلى ليبيا مهاجراً أواخر التسعينيات من القرن الماضي:"راقد ريح"..ومعناها ذلك الفقير المعدم الذي يكاد من شدة ضعفه يسقط عند أول نسمة هواء، وقد بنى الأشقاء الليبيون على هذه العبارة بعض الأمثلة الشعبية، من بينها: " راقد الريح ينبحن عليه كلاب السبخة"..وذلك لوصف سوء حظ الفقير الذي تطارده الكلاب الهزيلة، وكلاهما جائعان، الفقير والكلاب! .
 
 بلد النفط والقائد العالمي والنظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر والنهر الصناعي العظيم، كان يعاني من العوز، طوال اثنين وأربعين عاماً، وعندما سقط الزعيم وكتابه وكتائبه،على يد شباب ثورة شباط فبراير عام 2011 دخلت ليبيا في نفق التطرف والإرهاب المظلم والحرب الأهلية، ولم تخرج منها حتى اليوم، بعد مرور تسع سنوات عجاف، وسط تدخلات إقليمية ودولية، وقد بات ذلك المواطن الفقير، يتمنى العودة إلى الرقود بهدوء، من دون أن تسقطه الرياح التي تعصف بسيادة وطنه وثرواته ومستقبله! .
ليبيا من المملكة السنوسية إلى الثورة القذافية ثم انتفاضة فبراير وما بعدها، دخلت القرن الحادي والعشرين عبر طريق سريع، ولكن في الاتجاه المعاكس نحو العنف والانقسام والاختراق من جميع الجهات، وتكاد لعنة النفط تحرك الأحداث في ذلك البلد العربي في شمال إفريقيا، الذي تتجاذبه عوامل الجغرافيا والتاريخ والدين والتكوين
 المجتمعي .
قد يتساءل المرء، ما الذي جعل الولايات المتحدة وروسيا وأروربا تطرح اوراق لعبتها الدولية على خارطة ليبيا التي تمتد مثل شريط ملتهب، لأكثر من ألف ميل في جنوب البحر المتوسط وشمال الصحراء الأفريقية الكبرى؟!..وما الذي يدفع الرئيس التركي أوردغان إلى الإعلان عن زج حشود المتطرفين الإسلاميين في الصراع الليبي ليزيده اشتعالاً، في ظل تقاعس دولي وعربي عن إيجاد حل سلمي يعيد الاستقرار لشعب طيب لا يريد سوى السلام والرفاهية!؟.
 الجواب قد يكون عبر نظرة دقيقة لقراءة خارطة ليبيا نفسها، من وجهة نظر جيوستراتيجية، فهي بلد متوسطي وإفريقي وعربي ومسلم في آن معاً، وعندما يضاف النفط ولهيب الصحراء إلى هذه الخلطة الساخنة، وتكون أرضيتها مزيجا من القبلية والجهوية التي كانت تسمى في العهد العثماني ولايات برقة وطرابلس وفزان، فسوف تكون القابلية للانفجار مسألة توقيت، وقد كان الملك يحاول نزع الفتيل الصاعق، عندما اختطف تلك القنبلة من يديه عسكري شاب، في لحظة عبثية لا مثيل لها، وراح يساوم العالم من خلالها، لأكثر من أربعين عاماً، حتى إن بعض الأشقاء الليبيين كانوا يتندرون بمرارة: كنا نرفع شعار(إبليس ولا إدريس)، وقد استجيبت دعواتنا فأُرسل إلينا(إبليس) قائداً عالمياً!.. ولكن لا أدري ماذا يقولون الآن! عند سقوط الزعيم تكشفت خطورة الخلطة الليبية المتفجرة، فالفكر القومي الاشتراكي الجماهيري الهجين، كان أرضا سبخة لم يثمر غرسها، بعد زوال الغطاء الثوري الزائف، سوى فصائل متطرفة من الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وبقايا الجيش السابق والكتائب والقبائل، وكل من يريد أن يحارب، أو يجرب أسلحته، فهذه أرض جاهزة للحروب ومفتوحة للغزوات، كانت قد شهدت تمثيل أعظم فلمين سينمائيين تاريخيين للمخرج العالمي السوري الأصل مصطفى العقاد، هما (الرسالة) و(عمر المختار)، وذلك بتمويل من القذافي شخصياً!.
 وفق أحدث التقارير حول الصراع الليبي، فإن الرئيس الأميركي ترامب ينوي إرسال (قوات تدخل انساني أميركية!) عبر الأراضي التونسية من أجل الوصول من جهة الغرب إلى طرابلس، في حين كان أوردغان قد سبقه، وقد بعث جحافل من المقاتلين المتطرفين، من جنسيات متعددة، عبر البحار، إلى الشواطئ الليبية، في ظل ما يبدو أن لحظة الحقيقة حانت في حرب الوكلاء والدخلاء في ليبيا، فكثير من القوى الغربية إما أصبحت منحازة علناً إلى تركيا وحكومة فايز السراج الإخوانية، أو تحاول تجنب الصراعات المفتوحة معهما، وذلك بعد أن فقدت عملية الجنرال خليفة حفتر القادم من برقة الشرقية زخمها، ولم يستطع (الجيش الوطني) الليبي مواصلة اندفاعه لتحرير طرابلس من قبضة المتطرفين، في حين ثبت فشل عملية الاتحاد الأوروبي المدعوة"إيريني" لمنع توريد الأسلحة إلى ليبيا، ومنع وصول المهاجرين من ليبيا إلى شواطئ المتوسط الشمالية. 
بعد تسع سنوات من الإطاحة بمعمر القذافي، لم تقترب ليبيا من استعادة السلام والوحدة، بل ابتعدت عنهما أكثر فأكثر، كما يبدو، فقد فشل المجتمع الدولي في تقديم نموذج لحل الأزمة يقبله الليبيون، كما اصطدم اتفاق الصخيرات، الذي كان من المفترض أن يكون أساساً للبحث عن حلول مقبولة للطرفين، بواقع معقد وتدخل مفضوح من قوى خارجية، وفشلت المبادرات المتخذة في مختلف المؤتمرات حول ليبيا..واليوم يتساءل الأشقاء الليبيون أين العرب والمسلمون ومنظماتهم وقياداتهم، وهم إخوتنا الذين كنا نشاركهم الهموم كلها، لماذا يجعلوننا وقوداً لخلافاتهم، ونحن نواجه العواصف في هذا الصراع الدموي المفتوح على 
المجهول؟!.