مشهدية حزيران 2014

آراء 2020/06/07
...

حارث رسمي الهيتي
من مطعم "حجي لطفي" في سوق المدينة، حيث كان مكاننا المفضل في الغالب لتناول وجبة الافطار قبل أن نذهب الى اعمالنا، نحن مجموعة من الأصدقاء، الى محال مختلفة للكهربائيات والغذائية وتصليح المكائن وغيرها، تلك المحال التي تلقفتنا ما إن وضعنا وثائق وشهادات تخرجنا في اطارها الخشبي وزجاجها النظيف في مكانها الذي رسمته أسرنا لها حتى قبل دخولنا الى الجامعات.
أتذكر جيداً ذلك الصباح، اتذكره لانه الوحيد الذي تناولنا فيه افطارنا من دون أن ننطق بحرف، الوجوه مصفرّة، الحيرة والقلق من مستقبل مجهول قادم تخيمُ على المشهد، لا اتذكر مَن مِنا أطلق سؤاله الى البقية ما إن خرجنا من المطعم: شفتوا الصار؟!.
من أطلق السؤال كان ينتظر اجاباتنا عن حدث يوم أمس، دخول داعش الى مدينة الموصل، والاخبار تتوالى عن تحركات عسكرية عاجلة تتوعد بها الحكومة العراقية لاستعادة المدينة أو ما سقط منها في وقتها بيد داعش، القنوات الفضائية تتحدث عن أكبر عملية نزوح ستشهدها البلاد.
لا أحد منا كان يفضّل أن يبدأ بالاجابة، أو هي الصدمة التي أخرستنا، فمن يتصدى لهذا السؤال ماذا عساه أن يقول؟! في ليلة وضحاها أصبحنا امام عصابة تُسقط محافظة وتهدد حياة آلاف من سكانها الآمنين. وهدفها البعيد الاستيلاء على كل شيء، كل شيء من دون توقف!.
بدأت وسائل الاعلام تنقل لنا مشاهد كنا نراها في الضفة الغربية أو غزة، وشاهدناها قبل سنوات في الحرب الاسرائيلية – اللبنانية 2006، شاهدناها وتعاطف معها الكثير، اعتقد هكذا.
بدأنا نشاهد الآباء وهم يمسكون بأيادي أبنائهم وتسير زوجاتهم وبناتهم خلفهم محمّلين بما ساعدتهم قواهم على حمله، بطانيات، ملابس، اوان لخزن الماء، ومستمسكاتهم الرسمية بالطبع، وهم يسيرون في شوارع متربة، قاتمة ومجهولة، متوجهين الى "اللامكان" إن صح القول، باحثين عن سقف وأربعة جدران، أو الأخيرة فقط، ينامون فيه أو يؤويهم من مجهول لا يعرفونه.
في هيت، مدينتي حيث كنت أعيش، وبعد أن عشنا مرارة شهور من مشاهد سقوط المدن ، سقوط لا يشبهه شيء، فما يحصل عصيٌّ على الفهم والادراك، كيف لمثل تلك العصابات القادمة من صفحات "مخزية" في تاريخنا أن تفعل هكذا؟ من أعطاها الحق؟ وكيف امتلكت القوة؟ ولماذا يتعاطف معها البعض بل ويؤيدها بحرارة؟ كيف يمكن لبعضٍ من المجتمعات أن ترى في داعش خلاصها؟ وخلاصها مِن مَن؟ .
هناك، حيث المدينة التي تغفو على الفرات، كان الناس يحدثوننا عن سور المدينة القديم، الشاخص الى الآن، وابوابه الأربعة التي تقفل ليلاً أمام الوافدين، ولا تفتح الا نهاراً مهما كلّف الأمر حماية للمدينة من غزوات كانت تتعرض لها، صغاراً كنا فلم نفهم لماذا يصرُ البعض على الغزو؟ احاديث مثل هذه كانت تمر علينا في لحظتها سريعاً، أو قل مثلما يقول المثل (كنسةٌ تحت السجادة).
بعد (115) يوما فقط على سقوط الموصل ومن بعدها مدن اخرى، استيقظنا على اصوات المدافع والرشاشات، الخوف وحده هو الذي كان يحركنا، يدفعنا نحو الباب لرؤية ما يجري، ويدفع باصابعنا نحو الهواتف المحمولة، ويصر على اجراء المزيد من الاتصالات، بأقارب واصدقاء من مناطق مختلفة لمعرفة ما يجري، بعد انتهاء كل مكالمة يكبر الخوف ويسيطر علينا، على كل شيء فينا، يقابله نزرٌ يسير من املٍ تبقى نحو اتصالٍ آخر يكذب اخباراً سمعناها، لتنتهي جولتنا في ذلك الصباح بالخوف وانتصاره، انتصاره علينا كبشر، الاخبار مؤكدة: دخلت المدينة وأصبحت تسيطر على اجزاء واسعة منها . تاريخ المدينة لم يشفع لها أمامهم، بل كان وبالاً عليها، المدينة المدنية منذ الأزل، وتاريخ مجتمعها السلمي المتعايش مع الآخر المختلف، عدم رغبتها منذ 2003 وموجات الهرج والمرج في أن تكون شريكةً فيها، دفعهم الى الايغال بايذائها، مشاهد الجثث على الأرصفة، الآليات العسكرية المحروقة، مؤسسات الدولة التي تمت تسويتها مع الأرض، هيجانهم وهم يجوبون الدروب والأزقة بحثاً عن مطلوبين لهم، تنذر بأيامٍ يكون فيها اللون الأسود لوناً طبيعياً ومقبولاً.
لم يتركوا لنا مجالاً حتى لإنزال حقائب ملابسنا من حيث كانت، فلضمان السرعة اكتفينا بما نلبسه وغيار أخرى، حقيبة المستمسكات الجاهزة  في رحلات الهروب والعودة الى البيت.
ونحن نهرب حيث لا ندري الى أين، واجهنا مجاميع منهم، كانوا وحوشاً بالمعنى الحقيقي، قذرين وتبدو على ملابسهم بقايا الدم، دمنا الذي سمح لهم الجميع بان يسفكوه، حفاةً لا ينتعلون شيئاً في اقدامهم، عيونهم قوية، مترقبة، باحثةٌ عن كل شيء لاستغلاله ضدك أنت المعروف بالنسبة للبعض منهم، بتاريخك وانتمائك وموقفك منهم، كيف لا ومنهم من ابناء المدينة كثير، عرفناهم لأنهم وضعوا لثاما على وجوههم عكس البقية مكشوفي الوجوه، وأبرز ما كان يميّزهم هو امتلاكهم لأحدث الأسلحة والسيارات، الا انهم أصروا على أن تكون في حزام كل منهم سكينٌ كبيرة، كان أحدهم يحملها وقد تحول لون نصلها الى بنفسجي، أو أسود بعد أن جف الدم عليه، يقف على جنب، وخلفه حارس ضخم، لا أحد يقترب منه سوى حارسه ومجموعةٌ من الذباب كانت تحوم حول سكينه!. 
داعش فتحت في مخيلتنا أسئلة كثيرة، ورغم أننا هزمناها اخيراً وأصبحت جزءًا من ماضٍ موجع، الا اننا لم نجب لغاية الآن عن أسئلة مهمة، ملحة وضرورية؛ لماذا جرى ما جرى، لماذا دفعنا ثمناً غالياً الى هذا الحد؟ ولماذا لم نلغ أسباب وجودها أو نناقشها صراحةً في الأقل؟ لماذا لم نعترف بأنها حقيقة قادمة منا، وليست 
دخيلة.