المختلف والمؤتلف في التجربة اللبنانيَّة

آراء 2020/06/09
...

حسن جوان
 
يُعدّ الوضع اللبناني احد اكثر المشاهد العربية تعقيداً وتأزماً، ولا يتقدم عليه زمنياً سوى الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بالرغم من ان الاخير اكثر وضوحاً من حيث طبيعة القضية. ويبدو ان الوضع في لبنان قد انبنى على مبدأ الازمة الدائمة التي لا يمكن الخروج منها إلا عبر تفريخ أزمات جانبية، تنمو مخرجاتها التي تُقترح في البدء كحلول، لتتحول الى سبع أزمات جديدة اكثر تفاقماً وانغراساً في التفكك والفساد.
لقد انقلبت ميزات لبنان الجغرافية والتنوع الاثني والثقافي لبلد كان يعدّ شعلة حضارية، الى لعنة ممزقة لكل أمل باستعادة هذه الهبات التي استلبت منه منذ عقود. لا توجد خاصرة في لبنان الا وتعاني من وجع مستحكم، سواء من جنوبه المنتهك مراراً من قبل الماكنة العسكرية الصهيونية الغاشمة، أو شرقه وشماله الملتحم بجواره السوري المشتعل ناراً ودماراً في اقتصاده وشعبه، أو حتى غربه البحري الواعد بثروة غازية تتعالى وتيرة الصراع عليها. ومنذ ان اكلت حروبة الطائفية نصف مليون ضحية خلال سنواتها الطويلة الدامية، تصالح امراء تلك الحرب على اقتسام الكعكة الوطنية فيه ليس حصة حصة فحسب، ولا موردا موردا أيضا، بل شارعا شارعا في خريطة تمزيق لا يوصف للمناطق والثروات والمجتمع الذي جرى استثمار بذور التنوع الخلاق فيه، الى نزوع عنصري غير قابل للاندماج كما كان في سنوات الالق الثقافي والحضاري الذي صنع اسم وروح لبنان. شكل الدولة اللبنانية المحاصصاتي بقي لعقود والى الان يستبطن استحالة واقعية لاجراء أي اصلاح سياسي دائم لبناء دولة متماسكة، كل ما يجري بين فترة هدوء وأخرى هو هدنة وترضيات مرحلية مؤقتة، من خلال دفع اتاوات تقودها ذات الوجوه المدورة الضالعة في تخريب ونهب ثروات البلاد، في انتظار صفقة قادمة. اما عجلة السياسة والاقتصاد والتنمية فهي متوقفة منذ عقود من الانهاك الداخلي، في مقابل البذخ الجنوني للفئات الحاكمة عائلياً في الغالب. جنينة مثل عروس البحر الشرق متوسطي هذه أصبحت اقدم واكبر مكان طارد لابنائه المثقفين والمتعلمين والبارعين في إدارة الاعلام والمشاريع الإنتاجية والسياحية والمصرفية، كان جلّ هؤلاء رقماً يناهز الخمسة عشر مليونا في اصقاع الأرض، بينما ينتظر قرابة ثلاثة ملايين اخرين في مقلاة الوطن الساخنة. هذا الوصف المشهدي لعموم التجربة اللبنانية المعاصرة هو ليس بنيوياً في طبيعة البلاد ولا متأصّلاً فيها، لكنه نتيجة لجغرافيا معادية وضرورة حتمتها صناعة عدوّة منتصرة، رسمت عبرها محتوى داخليا من الفشل اللانهائي الذي تنتظر تلك الصناعة ان تجني آخر ثمارها منه هذه الأيام. ومع ائتلاف هذا الوصف الى حد بعيد مع مشهدنا السياسي العراقي، ينكشف تزامناً وتنسيقاً في الحراكات السياسية والتظاهراتية، وذات البنى والخطوات في معالجة الازمات الاقتصادية والحكومية، لا تخفى على أي مراقب. تظاهرات مليونية منتشرة في البلاد واسقاط حكومتين وتولي حكومة، اعداد لانتخابات قادمة وسط غرق لا يوصف في الازمات المركبة داخليا وخارجيا، وهذا التوافق في الحراك ونتاجاته هو ليس تصادفاً بقدر ما هو نتيجة لسياسة لبننة العراق القائمة على المحاصصة وصناعة الدولة الفاشلة المفككة، والممنوع عليها اي خريطة طريق على سبيل النهوض بمؤسساتها الوطنية واستثمار ثرواتها البشرية ومواردها بشكل تراكمي قابل لبناء. يضاف الى كل هذا وغيره وجود مشترك خطير بين العراق ولبنان، قد يكون ذروة الأهداف التي تتكبد فيه الدولتان أعباء العداء الذي يجلب الازمات الخارجية والداخلية في الفترة الأخيرة، اذ لا يمكن فصل المشهد الجغرافي البانورامي هذا عن مشهده السياسي وطبيعة المواجهة السياسية الشرسة بين اقطاب اقليميين ودوليين في هذا المسار الهلالي المحتدم. يطمح اللاعبون الدوليون الى مشهد قسري جديد لا يتوافق مع التكوين العضوي لبلدان عديدة تعلن عداءها للكيان الإسرائيلي وحلفائه في المنطقة، وهي بلدان تمتد من ايران مرورا بالعراق وسوريا وانتهاء بلبنان.هذا الحلف الذي انضمت اليه اليمن وهي تدفع ضريبته الان، هو ما تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها ومن ينضوي فيه من تنظيمات مسلحة معروفة، تسعى الى كسر هذه الجغرافيا عبر إيجاد مصدّ فاصل بين هذه الامتدادت المهددة. قامت التظاهرات في البلدين العراق ولبنان بناء على مطالب حقة تقوم على انقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي والخدمي والسياسي، لكنها لم تلبث ان امتزجت بشعارات مضادة لإيران وحزب الله والحشد الشعبي، وأعلنت عن نفسها كتظاهرات متعددة الأصوات وليست تظاهرة واحدة. وصار الوضع منحصرا ليس باستبدال الحكومات الفاشلة في إدارة ملفات الفساد وتراجع التنمية المتفاقم، وإنقاذ البلد من هاوية لا قرار لها او امل في وقف تدوير اليات الفساد بذات الوجوه والأحزاب غير الوطنية، وانما تعدى ذلك صراحة نحو قوة وطنية كبيرة ومضحية مثل الحشد الشعبي والخلط المتعمد بين السلاح المنفلت لعصابات الجريمة وبين السلاح الوطني الذي انقذ البلاد من اشرس هجمة إرهابية في تاريخه منذ المغول. بالتوازي مع ذلك نسبت طائفة كبيرة من متظاهري لبنان كل خراب البلاد الى وجود سلاح حزب الله و"تورطه" بالملف السوري خارج الأراضي الوطنية اللبنانية، مما اثار نقمة المجتمع المعادي لسوريا وصب جم نقمته على لبنان كعقوبة جماعية أوقفت عجلة البلاد الاقتصادية وحجبت المساعدات الدولية المستمرة من قبل اطراف عربية ودولية. ورغم وجود اهداف شبه مستحيلة، مثل تفكيك حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، عبر موجة شرسة تهدف الى تجفيف مواردهما وادراج أعضائهما ضمن عقوبات دولية، الا ان المحاولة بكل عناوينها سوف تستمر وتتنوع داخليا وخارجيا، كما ان مطاولة الأطراف المقابلة سوف تستمر بالتوازي مع غليان شعبي محتدم في كل مكان مطالب باصرار بوطن وحقوق مواطنة آمنة ومستقرة. لقد اسهم ساسة العراق ولبنان على حد سواء، في تذكية صراع الاجندات وخلط الأوراق وتعمية القضية، واختلاط الأصوات المنادية بالحقوق الإنسانية والوطنية بالاصوات والقضايا الأخرى المغرقة في الفساد والعمالة والهدم، ولا سبيل الى تصفية المناخات كلها سوى بفصل القضايا عن بعضها، وفرز أولويات الوطن، ومحاربة كل فساد تقع إدامة الخراب وخلط الأوراق الداخلية بالخارجية ضمن أوسع مصالحه.