هل كانت مخيلة القذافي السياسية والأدبية تستطيع وصف ما تشهده ليبيا اليوم، لو كان لا يزال على قيد الحياة؟!..ربما قرأنا قصصاً عجيبة لا تقل غرابة عن قصصه المنشورة في(القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء) أو(تحيا دولة الحقراء)، وذلك عندما كان مغرما بتأليف القصص، بعد( الكتاب الأخضر)،وكان ينشغل في الكتابة القصصية مثل صديقه اللدود صدام مؤلف( زبيبة والملك)،وهما يقودان بلديهما إلى الهاوية، فذهب كلاهما، وتحولت قصصهما إلى حكايات، وباتت قصورهما قبوراً مهجورة، بلا دولة ولا ملك ولا زبيبات!
تزامنت المعارك الأخيرة في ليبيا بين أطراف الصراع حول مدينة سرت الساحلية، خلال الأيام الماضية، مع ذكرى ولادة القذافي، في السابع من حزيران يونيو عام 1942م حيث ولد(الزعيم)، وسط اسرة بدوية، في (وادي جهنم) قرب قرية(سرت) التي جعلها القذافي قلعته الحصينة، وعاصمة جماهيريته العظمى، ثم شهدت مقتله ونهاية حكمه،قبل نحو تسع سنوات، عبر ثورة شعبية وتدخل دولي، وقد عادت سرت إلى واجهة الأحداث مجدداً، هذه الأيام، كساحة حرب مدمرة!
السؤال الذي تثيره تطورات الأحداث الأخيرة في ليبيا: لماذا سرت؟..وماذا يدور هناك؟..وكيف تبدو نهاية الصراع؟!
سرت القرية التي تحولت بقرار الزعيم إلى مدينة حديثة، كانت تضم مقرات السلطة الفخمة باعتبارها العاصمة البديلة الجاهزة، تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين أكبر مدينتين ليبيتين تاريخيتين، وهما بنغازي من جهة الشرق، وطرابلس من جهة الغرب، وهي ترقد على حافة الحوض النفطي في مثلث قاعدته الشمالية تمتد بين سرت وبنغازي،ورأسه ينحدر نحو مدينة سبها الصحراوية الجنوبية، وهو ما جعل من ليبيا بلداً نفطياً غنياً، كما استطاع القذافي أن يستخرج الماء إلى جانب النفط، من عمق الصحراء، في ما سمي بمعجزة( النهر الصناعي العظيم)،لكن مزيج هاتين الثروتين( النفط والماء) وغيرهما بين يدي الزعيم لم يكن قادراً على تلبية متطلبات شعب لا يتجاوز تعداده سبعة ملايين، وقد أصبح ذلك المزيج وقوداً للنيران المشتعلة حالياً، في معارك الوكلاء والدخلاء!
معركة سرت قد تؤدي إلى تفكيك ليبيا،إلى دولتين، بنغازي وما حولها في الشرق، وطرابلس وما يتبعها في الغرب،وهو تقسيم مفروض بقوة السلاح على أرض الواقع منذ سنوات عدة، لكنه لم يكتسب الاعتراف أو الشرعية داخلياً أو خارجياً حتى اليوم،ولعل من غرائب الوضع الليبي ذلك الانشطار بين السلطات الحاكمة وارتباطاتها الخارجية، ففي جهة الشرق يتمحور الحكم حول البرلمان المنتخب برئاسة المستشار عقيلة صالح إلى جانب القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر،ومركز الحكم في الشرق يتوزع بين مدينتي بنغازي والبيضاء، وفي جهة الغرب تتخذ حكومة فايز السراج من طرابلس عاصمة تقليدية،ورمزاً لليبيا الموحدة، ومقراً لما تسمى بـ(الحكومة المعترف بها دولياً) أو بالأصح المنصّبة صورياً، والخاضعة لهيمنة الفصائل المسلحة!
يمكن رسم خارطة الصراع المحلي والدولي في ليبيا بين هذين المحورين الرئيسين اللذين يخفيان وراءهما خيوطاً متشابكة وأطرافاً عديدة، تديرها اللعبة الدولية،عبر محركين ساخنين هما( النفط) و(الموقع الستراتيجي)!
روسيا تقف وراء(حكومة الشرق) وتساندها مصر وسوريا والإمارات، وقد دعمت تلك الدول الزحف الذي قاده حفتر بجيشه الوطني نحو طرابلس الغرب،قبل أكثر من عام، حيث اصطدم وتوقف ثم تراجع أخيراً أمام قوات(حكومة طرابلس الغرب) التي يرأسها السراج والميليشيات المدعومة من تركيا بصورة رئيسية،تحت غطاء شرعي زائف، في حين يبدو الأميركان والأوروبيون مجرد متفرجين، أو هم في الحقيقة أقرب إلى أي طرف منتصر، فقد كانوا قبل أشهر مع حفتر،وهم اليوم مع السراج،في ظل صراع دموي يخفي حقيقة المصالح المتقاطعة على الأرض الليبية!
روسيا حريصة من خلال محورها الشرقي على عقود النفط والبناء في ليبيا ومشاريع (إعادة الإعمار) لكن يعتقد المسؤولون العسكريون الأميركيون أن الهدف الستراتيجي للكرملين هو تأمين قواعد عسكرية على الجناح الجنوبي لأوروبا،عبر البحر المتوسط، حيث تقع ليبيا في قلب الساحل المتوسطي!
مصر احتضنت قبل أيام (مبادرة دستورية) لحل الصراع برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي وحضور زعيمي الشرق عقيلة صالح وخليفة حفتر،وتضمنت المبادرة هدنة لإيقاف إطلاق النار،سرعان ما رفضتها حكومة السراج!
إن الاهتمام المصري قد يتطور الى مستوى التدخل العسكري المباشر،في ليبيا،خلال الأسابيع المقبلة، وذلك لمواجهة خطرين،أولهما الإرهاب،وثانيهما الاقتصاد، فكنوز ليبيا المجاورة قد تكون لقمة جاهزة للأشقاء الجائعين!
معادلة الصراع الليبي تغيرت خلال الأيام الماضية، من خلال وقوف تركيا بشكل عسكري مباشر مع حكومة السراج وميليشياتها،وبخاصة بعد توقيع تركيا اتفاقية الطاقة التي تجعل من ليبيا ساحة مفتوحة للهيمنة، ونافذة خلفية لإنقاذ الاقتصاد التركي المنهار!
يمكن القول أن المشهد العسكري الأخير قد رسم حقيقة اطراف الصراع المتورطة في سفك الدم الليبي،فروسيا وتركيا تدعمان طرفي النزاع، كجزء من المنافسة على عقود الطاقة النفطية وصفقات أخرى بقيمة مليارات الدولارات في تلك الدولة العربية الافريقية الغنية..روسيا تدعم قوات حفتر، المرابطة شرقاً، بينما تؤيد تركيا(حكومة الوفاق) في طرابلس ولم تتورع أنقرة عن إرسال المسلحين المتطرفين عبر المتوسط، كما تشارك سفنها وطائراتها في معركة سرت الفاصلة...وعندما تسقط سرت في يد أحد الطرفين ستكون خارطة ليبيا كلها، أرضاً وشعباً ونفطاً ومياهاً،قد رسمت وفق معادلة جديدة، سوف يكون التقسيم وعدم الاستقرار من أبرز ألوانها القاتمة!