هادي نهر

الصفحة الاخيرة 2020/06/10
...

حسن العاني 
في العام الدراسي 1966/ 1967 التحقت بالجامعة المستنصرية/  كلية الآداب/ قسم اللغة العربية، وكان واضحاً من البداية، أنَّ مادة (النحو) هي العمود الفقري في دراستنا، لأنها الطريق المؤديَّة الى فهم أغلب المواد الأخرى، بل هي الطريق الى الإملاء السليم، خاصة حين يتعلق الأمر بمتاعب (الهمزة)!
أشهد بأنني وزملائي أمضينا ثلاث سنوات دراسيَّة، لم نتعلم فيها من النحو شيئاً، وحقدنا على (إبن مالك) وألفيته وشواهده، وعلى شرح (ابن عقيل) وتعليقاته وهوامشه، وعلى ما يورده الرجلان من (شواذ) ما أنزل الله بها من سلطان، ومع ذلك لم (يرسب) أحدٌ منا في هذه المادة، فقد كنا نحفظ أبيات الألفيَّة وشروحها ونؤديها في الامتحان على أفضل وجه، أما خارج القاعة الامتحانية، فإنَّ من يدعي بأنه أكرم منا جميعاً، لا يستطيع كتابة سطرين من غير أنْ يكسر رأس الفاعل أو يرفع رأس المفعول!!
شيء، ما تغير فجأة ببلوغنا المرحلة الرابعة، إذ تعهد مادة النحو أستاذ جديد هو الدكتور هادي نهر، فقد كان الرجل جزاه الله خيراً لا يسمح لأحد من الطلبة أنْ يجلسَ في القاعة من دون أنْ يشارك في نقاش أو تعقيب أو اجتهاد أو سؤال، وقد أزعجنا الوضع الطارئ أول الأمر، إلا أننا لم نلبث أنْ اعتدنا عليه بعد زمنٍ قصير، وصار الواحد منا يبحث عن كتب ومراجع في النحو، غير الالفية، وتعلمنا في بضعة أشهر ما لم نتعلمه في 3 سنوات، وصار الخطأ النحوي يخدش اذاننا إذا ما سمعناه من المذيع (أما المذيعة فلم نكن نصغي الى كلامها، بل ننظر الى مفاتنها الجميلة)!
على أنَّ الأهم من ذلك، هو أنَّ الرجل كان لا يسمح لأحدٍ من الطلبة بدخول القاعة بعده، ولا مغادرتها إلا عند الضرورة القصوى، أما إذا تخلف أحدٌ عن حضور محاضرته من دون عذر مقبول، فإنه يقيم الدنيا ولا يقعدها ولا يتردد عن معاقبته حتى لو كان ظهر الطالب من حديد أو كانت الطالبة ابنة وزير، وهذا ما لم نعهده سابقاً، وما زلت أذكر كيف حاول أحد زملائنا يوماً مجادلته، زاعماً أنَّ الطالب الجامعي مثل عضو البرلمان يمتلك حق الحضور الى القاعة ومغادرتها مثلما يمتلك حق الغياب متى شاء، وما زلت أذكر كيف ردّ عليه منفعلاً: (أنا لا أريد طالباً يأتي نهاية السنة ليسأل عن شهادته مثل عضو البرلمان الذي يحضر نهاية الشهر ليقبض راتبه، والحقوق التي تتحدث عنها لا تعني الضحك على أهلك والأساتذة والكلية والشعب، بل هي قبل أي شيء آخر أنْ تحترم هذه الأطراف التي أتت بك الى حرم الجامعة أو قبة البرلمان، وأنْ تكون أكثر من غيرك التزاماً بالحضور والمناقشة والعطاء، وإلا فإنَّ مكانك البيت أو الشارع).
كم كان إخلاصاً من هذا الرجل برغم ما كنا نظنه قسوة، الآن فقط بتنا ندرك بأنه لولا الدكتور نهر لبقينا نطالب بحقوقنا فقط ولا نلتفت الى واجباتنا، ولبقينا ندخل ونخرج ونغيب، ولكننا لا نفرق بين الضمير الظاهر وبين الضمير... الغائب!!