الأزمات وتشكل عالم جديد

آراء 2020/06/12
...

د.عبد الواحد مشعل
 
ويظهر ذلك في تداعياتها ومخاطرها على الإنسان أينما يكون، لاسيما ان عدد سكان العالم قد اقترب أو تجاوز سبعة مليارات نسمة، مع تفاقم مطرد في اقتصادات العالم الفقير، الى درجة لا يمكن معها السيطرة على الإيفاء بالغذاء الكافي، من ينظر الى عالم اليوم، يجده يمر بمرحلة تاريخية فريدة، يمكن وصفها بأنها من اعقد المراحل في تاريخه الحديث، وقد ضربت جائحة كورونا أرجاءه من أقصاه الى أقصاه، مقترنة بأزمة اقتصادية خانقة تعد من اشد الأزمات الاقتصادية منذ أزمة العالم في 1929،
 
صراع العمالقة في سيادة العالم
لا يمكن أن ينكر احد الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، والمعسكر الشرقي بمختلف منطلقاته الأيديولوجية، على الرغم من حساب بعض دوله على المعسكر الرأسمالي الغربي، إلا أن هناك عوامل ورواسب ثقافية تلعب دورها في جوهر الانضمام الى الطرف الغربي بشكل أو بأخر على المدى البعيد ، على الرغم من حساب المصالح بينها وبين الغرب، كاليابان الدولة الرأسمالية، وماليزيا الدولة الإسلامية، اللتين يتخذ كل منهما الفلسفة الرأسمالية طريقا في رسم سياساتهما، مع وجود تعديلات تخص هذه الثقافة أو تلك، فالثقافة الكونفوشيوسية في اليابان، والإسلامية في ماليزيا ، وكلاهما لهما مبادئ راسخة لدى كثير من شعوب آسيا، ما يفرض عقبات حقيقية في تطبيق الليبرالية الغربية بمنطلقاتها وثقافتها التي هي عليها في الغرب، وقد ينطبق هذا بدرجة أو بأخرى على دول آسيا واميركا والغرب، كما أن روسيا الحليفة ببقايا الأيديولوجية للصين، أخذت تقض مضاجع الغرب في أوربا، ولاسيما في أوكرانيا، فضلا عن الغزو البضائعي للصين لكل أرجاء المعمورة بما فيها الولايات المتحدة الأميركية نفسها، ما يضيف طابعا صراعيا خطيرا، ولا شك في أن قوة الولايات المتحدة لا تزال الرقم الصعب في العالم، إلا أن الحروب التي تخوضها في أماكن مختلفة من العالم تجعلها تعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة، في مقابل ما يمكن أن نسميه (بالهدوء الصيني) الذي ينأى بنفسه عن الحروب والأزمات مباشرة، ما جعل البعض يطلق عليها (الرجل الثقيل)، الذي قد يخفي أيضا قوة متناهية لا يعرف مداها، ولهذا نحن نعيش صراع العمالقة لتضيف أزمة كورونا العالمية، والأزمة الاقتصادية الناتجة عنها، شكلا جديدا من الصراع قد يأخذ مديات خطيرة، من اجل التحكم في عالم اليوم، أو في الأقل التقاسم بينهما على أسس يفهمها الطرفان.
 
نحو تشكل عالم جديد
لا شك في أن جائحة كورونا ضربت العالم بأسره في مفصل قاتل، فشلت الاقتصاد العالمي بقطاعاته المختلفة، وحددت السفر بين أجزاء المعمورة، وشلت التعليم والعمل والسياحة، حتى سرحت كثير من الدول المتقدمة ملايين الموظفين والعمال من وظائفهم، وتدل بعض الإحصائيات أن اميركا وحدها سرحت ما يقارب خمسة وعشرين مليون موظف وعامل، كما شهدت دول أخرى تسريح أعداد هائلة منهم، والمشكلة الأكثر تفاقما على المستوى المعيشي تظهر في الدول التقليدية والفقيرة، التي أضرت الأزمة الصحية فيها بالفئات محدودة الدخل، ولاسيما القطاع الخاص، وتفاقم هذه المشكلة يزداد يوما بعد اخر، إذا علمنا أن كثيرا من هذه الدول لا تمتلك الإمكانيات التقنية اللازمة لمواجهة الأزمة الصحية التي تضرب مجتمعاتها. إن كل المؤشرات الحالية تؤكد أن العالم متجه نحو تشكل جديد، سواء في تنظيماته الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية الداخلية، أو على مستوى العلاقات بين الدول التي تشهد تفككا واضحا في علاقاتها السياسية، وخير مثال تلك العلاقات التي بدأت تهتز بين دول الاتحاد الأوربي، ودخول روسيا على الخط وتقديمها مساعدات صحية الى بعض الدول الأوربية، كما حصل في ايطاليا، ما أربك علاقات دول الاتحاد الأوربي، وسبب تصاعد الانتقادات في ما بينها، وعلى جانب آخر بدأنا نلاحظ زيادة حدة النبرة بين أمريكا والصين حول كورونا، ما سيلقي بظلاله على الوضع السياسي ليس بينهما فحسب، بل على مستوى العالم، لاسيما مع تزايد المخاوف من انهيار اقتصادات دول قوية، وعلى نطاق الكرة الأرضية، حتى ذهب الكثير من المراقبين والمحللين الى الاعتقاد بان العالم ما بعد كورونا، لن يكون كما كان قبلها، سواء على مستوى التحالفات أو على مستوى الصراعات الإقليمية والمحلية.
 
الأزمة والشرق الأوسط
ألقت الأزمات بظلالها على منطقة الشرق الأوسط، ولم تعد أسعار النفط ولاسيما في الدول الريعية المعتمدة كليا عليه، قادرة على الخلاص من كوارث اقتصادية كبيرة تنتظرها بسبب كورونا، حتى بات أمنها المجتمعي والإنساني والصحي والغذائي في دائرة الخطر، فضلا عن التغيرات التي قد تطول المنطقة بأسرها، ما يجعل كثيرا من الدول التقليدية في مهب الريح، وعلى الرغم من قلة مخاطر كورونا ظاهريا مقارنة بتأثيرها في العالم المتقدم، إلا أن مخاطره في دول الشرق الأوسط لا تزال من اكبر أزماتها المستعصية، لاسيما أن كثيرا منها تعاني من اختناقات سكانية وتراجع في قطاعاتها الاقتصادية والصحية والخدمية وغيرها، فضلا عن احتدام الصراعات المحلية في بعضها، التي تضيف الى أزمتها الصحية والاقتصادية متاعب كبيرة، وربما سيعجل هذا في انهيار بعضها.